بعد فشل محادثات أنقرة.. الجيش الباكستاني يصعّد ضد طالبان ويتهمها بدعم الإرهاب

الخميس 30/أكتوبر/2025 - 07:06 م
طباعة بعد فشل محادثات أنقرة.. محمد شعت
 

في ظل استمرار حالة التوتر الأمني بين إسلام آباد وكابول، وتراجع مؤشرات الانفراج التي حاول الطرفان هندستها خلال الأسابيع الماضية، تتصاعد الاتهامات الباكستانية مجددًا لنظام طالبان الأفغاني بدعم الجماعات المتشددة الناشطة عبر الحدود، في مشهد يعيد صياغة العلاقات بين البلدين ضمن معادلة حساسة تحكمها الذاكرة الأمنية المتراكمة وانعدام الثقة التاريخي. وفي أحدث حلقات هذا التصعيد، وجّه رئيس أركان الجيش الباكستاني، المشير عاصم منير، انتقادات شديدة اللهجة إلى طالبان، متهماً إياها بإيواء ودعم عناصر إرهابية “مدعومة من الهند”، على حد تعبيره، رغم المساعي الباكستانية لتحسين العلاقات منذ سيطرة الحركة على الحكم في أغسطس 2021.

وخلال جلسة مع مجلس شيوخ القبائل في بيشاور، جدّد منير التأكيد على أن الأراضي الأفغانية ما تزال تمثل “ملاذًا آمنًا للإرهابيين” الذين يستهدفون الأمن الباكستاني، رغم الوعود المتكررة من كابول بعدم السماح باستخدام أراضيها ضد دول الجوار. وتأتي هذه التصريحات في مرحلة حساسة من مسار العلاقات، إذ كانت أنقرة قد استضافت جولة تفاوض جديدة بين الطرفين لبحث آليات ضبط الحدود ومنع الهجمات المتبادلة، قبل إعلان إسلام آباد انهيار المفاوضات وعودة وفدها، في خطوة عكست قدراً من الإحباط وعودة أجواء الشك المتبادل. وفي الوقت ذاته، تحدثت مصادر عن قبول باكستان استئناف الحوار بناءً على طلب تركي، لكن دون مؤشرات على حل جذري قريب.

هذا التصعيد الكلامي ترافق مع رسائل عملياتية واضحة، حيث كثّفت قوات الأمن الباكستانية انتشارها وتحركاتها في إقليم خيبر بختونخوا، الذي يُعد مسرح العمليات الرئيسي للجماعات المسلحة المرتبطة بطالبان باكستان وتنظيمات أخرى. وفي هذا السياق، أعاد منير التذكير بأن الجيش “لن يسمح بأي اعتداءات عبر الحدود”، مشيراً إلى أن قوات الأمن ستواصل عمليات “تطهير البلاد من العناصر المتطرفة ومن يدعمهم”، مؤكداً في الوقت ذاته الدور الحاسم لزعماء القبائل وسكان الإقليم في المواجهة الأخيرة. ويكشف هذا الخطاب مدى اقتراب باكستان من صياغة استراتيجية ردع أكثر صرامة تجاه طالبان، ضمن توازن دقيق بين الضغط العسكري والحوار المشروط.

خلفية الصراع الأمني المتجدد

تجدد الاتهامات جاء بعد أسابيع من اشتباكات حدودية عنيفة بدأت في 12 أكتوبر، عندما اتهمت باكستان طالبان الأفغانية بشن هجوم غير مبرر على نقاط حدودية باكستانية، ما أدى إلى اندلاع مواجهات أسفرت عن مقتل أكثر من 200 مسلح تابع لطالبان والجماعات المتصلة بها بحسب الرواية الباكستانية، مقابل استشهاد 23 جنديًا باكستانيًا. ووسط تزايد المخاوف الإقليمية من انزلاق الوضع إلى مواجهة واسعة، تم التوصل إلى وقف إطلاق نار مؤقت في 17 أكتوبر بطلب من طالبان، قبل بدء مفاوضات في الدوحة ثم في أنقرة، انتهت دون نتائج ملموسة.

هذا المشهد يعيد رسم خطوط التماس الجيوسياسية على طول خط دوراند، الحد الفاصل بين باكستان وأفغانستان، والذي ظل تاريخيًا موضع خلاف وتوتر سياسي وأمني. فمنذ سقوط النظام الجمهوري الأفغاني وعودة طالبان إلى الحكم، رأت إسلام آباد في هذا التطور فرصة لإعادة بناء بيئة أمنية مستقرة على حدودها الغربية. غير أن ما حدث لاحقًا كان العكس تقريبًا؛ إذ تصاعد نشاط طالبان باكستان، وتكررت الهجمات المسلحة داخل الأراضي الباكستانية، في وقت بدا فيه أن كابول إما عاجزة عن كبح الجماعة أو غير راغبة في ذلك، وسط تشابكات قبلية وأيديولوجية وتاريخية تجعل الفصل بين الحركتين معقدًا للغاية.

ويشير مراقبون إلى أن العلاقة بين طالبان الأفغانية وطالبان باكستان لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الاجتماعي والثقافي الممتد بين قبائل البشتون على جانبي الحدود، حيث تلعب الروابط القبلية والعائلية دورًا يتجاوز الحسابات السياسية الآنية، كما أن روابط الجهاد والتاريخ المشترك بين الحركتين تجعل من الصعب على طالبان الأفغانية اتخاذ خطوات قد تُفسر كاستهداف مباشر لحليف تاريخي ساهم في تعزيز نفوذها لعقود. وفي هذا الإطار، تتردد روايات عن أن بعض قادة طالبان الأفغانية يرون أن إضعاف طالبان باكستان قد يؤدي إلى اهتزاز صورتهم أمام قواعدهم الميدانية، خاصة في الولايات الحدودية مثل ننغرهار وخوست وباكتيا.

الحسابات الإقليمية وتقاطعات النفوذ

إلى جانب الاتهامات المباشرة بدعم طالبان باكستان، حملت تصريحات منير إشارة لافتة إلى دور الهند، إذ تحدث عن “إرهابيين مدعومين من الهند” يعملون انطلاقاً من أفغانستان لاستهداف الأمن الباكستاني. هذا الاتهام ليس جديدًا، لكنه اكتسب في الآونة الأخيرة زخماً متزايدًا، في ظل إدراك إسلام آباد أن نيودلهي تسعى للاستفادة من المرحلة الانتقالية في أفغانستان لترسيخ نفوذ غير مباشر، سواء عبر دعم مجموعات معادية لباكستان أو من خلال تعزيز حضورها الاستخباراتي والسياسي في محيط كابول. ورغم أن طالبان تعلن باستمرار أنها لن تسمح باستخدام الأراضي الأفغانية ضد أي دولة، فإن باكستان ترى أن سلوكها لا يعكس هذه الالتزامات عمليًا.

من جهة أخرى، يدرك صانع القرار الباكستاني أن أي تصعيد مباشر مع طالبان سيكون مكلفًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وتزايد الأعباء المرتبطة باللاجئين الأفغان الذين دخلوا باكستان خلال العامين الماضيين. كما أن إسلام آباد لا ترغب في فتح جبهة توتر إضافية تؤثر على مسار علاقاتها الخارجية، خاصة مع الصين التي تراقب الوضع عن كثب خوفًا على مشاريعها الاستراتيجية في باكستان، وعلى رأسها الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC). ولذلك يبدو أن الخيار الأكثر ترجيحًا لدى باكستان هو إدارة الأزمة عبر مزيج من الضغط والتفاوض، دون الوصول إلى مواجهة مفتوحة ما لم تُفرض الظروف.

في المقابل، تجد طالبان نفسها أمام تحدٍ مزدوج. فمن جهة، لا يمكنها تحمل خسارة قنوات التواصل مع باكستان، الدولة التي كانت تاريخيًا محورًا أساسيًا في تفاعلاتها الإقليمية، والتي ما زالت تمثل شريانًا اقتصاديًا وتجاريًا مهمًا لأفغانستان. ومن جهة أخرى، لا تستطيع الحركة اتخاذ خطوات قوية ضد طالبان باكستان دون المخاطرة بخلق شرخ داخلي أو فقدان دعم مكون قبلي وعسكري مهم في معادلتها الداخلية. كما أن طالبان تحتاج إلى الحفاظ على توازن حساس بين خطابها السيادي تجاه الخارج وبين استحقاقات الحكم وإبقاء أبواب الاعتراف الدولي مفتوحة.

على المستوى الإقليمي، يُلاحظ أن تركيا وقطر لا تزالان تلعبان دور الوسيط بين الجانبين، في محاولة لوقف التدهور وتأمين إطار تفاوضي مستدام. وقد جاء اختيار أنقرة مكانًا للمفاوضات في هذا السياق، باعتبارها طرفًا يحظى بثقة نسبيّة لدى الطرفين، ولديها رغبة في تعزيز دورها القيادي في ملفات الأمن الإقليمي. إلا أن تعثر مفاوضات إسطنبول يشير إلى أن الأزمة أكثر تعقيدًا مما كان متصورًا، وأن الطريق نحو تفاهمات أمنية مستقرة ما يزال طويلًا ووعرًا، في ظل غياب ثقة بنيوية وقدرة تنفيذية راسخة في كابول.

ولا يمكن فصل هذا المشهد عن الدور الأمريكي، وإن كان غير ظاهر على السطح. فواشنطن تراقب تصاعد خطر الجماعات المتشددة في أفغانستان بقلق متزايد، لكنها لا تريد الانخراط مباشرة في الملف. وبينما يعتقد البعض أن الولايات المتحدة قد تستفيد من الضغط على طالبان عبر قنوات إقليمية بما فيها باكستان، فإن آخرين يرون أن واشنطن باتت تعتمد استراتيجية “الرقابة من بعيد”، متجنبةً العودة إلى مشهد التدخل المباشر. ومع ذلك، يبقى الارتباط بين تصاعد الإرهاب في المنطقة وبين الأمن الدولي عاملًا قد يفرض نفسه لاحقًا على الأجندة الأمريكية، خاصة إذا تطورت التهديدات عبر الحدود لتشمل نطاقات أوسع.

وعلى الأرض، تستمر الديناميكيات المعقدة في فرض واقع غير محسوم. فبينما تواصل باكستان عملياتها الأمنية بصمت وتصميم، وتضغط دبلوماسيًا لتسليط الضوء على مخاطر التغاضي عن نشاط الجماعات المسلحة، تواصل طالبان إدارة الوضع وفق مقاربة تقوم على التماسك الداخلي، وتعزيز السيطرة على الولايات الحدودية، وتقديم خطاب ناعم للخارج دون تغيير جذري في البنية الأمنية. وفي غياب تقدم ملموس في مسار الحوار، ومع استمرار العمليات عبر الحدود، تبقى احتمالات التصعيد قائمة، ولو ضمن نطاق مدروس يجنّب الطرفين الانزلاق إلى مواجهة شاملة.

وهكذا تبدو العلاقات بين باكستان وطالبان على مفترق طرق. فإما أن تنجح الوساطات الإقليمية والدولية في تثبيت آليات أمنية مشتركة تضمن الحد الأدنى من الاستقرار، أو أن تستمر دورة الاتهامات والعمليات المتبادلة، بما يعيد تشكيل البيئة الاستراتيجية في منطقة حساسة تتقاطع فيها الحسابات التاريخية والجغرافية والدينية. وحتى الآن، لا شيء يشير إلى أن نهاية هذا المسار ستكون قريبة، إذ تتشابك العوامل الداخلية لكل طرف مع المصالح الإقليمية والدولية، ليظل المشهد مفتوحًا على احتمالات متعددة، أبرزها استمرار التوتر بصورته الحالية، وتفاقم الضغوط المتبادلة، وعودة ملف الحدود إلى مركز المشهد الأمني الإقليمي في الجنوب الآسيوي.


شارك