صيحات التجديد الديني ( 10 )

الأحد 18/يناير/2015 - 09:12 م
طباعة
 
ورغم هذه المتناقضات التي امتلأت بها كتابات ومواقف جمال الدين الأفغاني، فإن أحداً لا يمكنه أن ينكر دوره البارز - سواء في مجال السياسة التحررية أو في مجال التجديد الديني - وهكذا وصفه أحمد أمين في كلمة ألقاها أمام قبره، في احتفال أقيم لإحياء ذكراه، فقال إنه "محيي النفوس، ومحرر العقول، ومحرك القلوب، وباعث الشعوب، ومزلزل العروش، ومن كانت السلاطين تغار من عظمته، وتخشى من لسانه وسطوته، والدول ذات البنود تخاف من حركته، والممالك الواسعة الحرية تضيق نفساً بحريته"، وكم من مواقف اتخذها الأفغاني كانت مثار إلهام لشعوب بأكملها، ففي حضرة السلطان عبد الحميد، أقوى أقوياء زمانه وخاقان البرين والبحرين، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، أخرج مسبحته من جيبه وبدأ يعبث بحبّاتها بين أصابعه، وفي هدوء انحنى رئيس الديوان على الأفغاني هامساً بأن يعيد الأفغاني مسبحته إلى جيبه، إلا أن الأفغاني ردّ بصوت عالٍ: "إن حضرة السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليوناً من بني آدم، أفلا يلعب جمال الدين بثلاثين حبة من الكهرمان؟!"، وعندما جلس إلى الخديو توفيق لم يناور بالألفاظ، بل قال مباشرة: "إن قبلتم نصح المخلص، وأسرعتم في اشتراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخاب جمعية لنواب الأمة تسنّ القوانين لتنفّذ باسمكم وبإرادتكم، يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم"، [الأعمال الكاملة – صـ475]. 
وكان الأفغاني يصرخ بالمساواة، فسأله ناصر الدين خسرو، شاه إيران: "أيصح أن أكون - يا حضرة السيد - وأنا ملك ملوك الفرس، كأحد أفراد الفلاحين؟"، فرد جمال الدين الأفغاني: "اعلم يا حضرة الشاه، أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك، ستكون - بالحكم الدستوري - أعظم وأثبت ممّا هي الآن، ولا شك يا عظمة السلطان أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش دون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكاً عاش دون أمة ورعيّة؟!"، [عبد الرحمن الرافعي – جمال الدين الأفغاني باعث نهضة الشرق – صـ212]، ويمضي الأفغاني محرّضاً: "أنت أيها الفلاح المسكين، تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما يسدّ الرمق ويقيم أود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟!، لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!"، وأيضاً القول: "لو أن كل واحد من هذه الشعوب بصق بصقة واحدة، وبصقوها معاً، لتكوَّن منها بحر هائل أغرق كل الطغاة"، ثم يـأتي إلى ميدان التجديد في الدين، فيعلن - في شجاعته نادرة في زمانه - "إن الدين يجل عن معارضة العلم، فإن وقعت المعارضة وجب تأويل النص"، ويصيح على صفحات العروة الوثقى: "لقد فسد الإسلام بالجهل بتعاليمه الصحيحة عبر الأجيال، ولا بدّ من ثورة لإصلاحه وإلا واجه المسلمون الهلاك، إن أخطاء القرون الماضية ومساوءها إنما حصلت نتيجة سوء فهم جوهر العقيدة كما احتواها القرآن والسنة، فالإسلام - في جوهره - دين عقلاني يدعو إلى تحرير العقول من الخرافات، ويفتح الباب واسعاً أمام العلم، وعلى المسلمين - إذا أرادوا الخروج من كهوف التخلف والانحطاط - أن يأخذوا من أوروبا ما ينفعهم من العلوم الحديثة"، وأيضاً قوله: "إن التعاليم الأصلية للإسلام تعطي للمسلمين حق الثورة ضد حكامهم الطغاة"، ثم ها هو يتحدّى الجميع قائلاً: "إن الشرائع تتغير بتغيّر الأمم"، [الدكتور محمد كامل ضاهر – الصراع بين التيارين الديني والعلماني – صـ154]، وبطبيعة الحال هاج عليه شيوخ الأزهر وحرضوا تلاميذهم ضده، فهاجموا مجالسه واعتدوا عليها، فاتّخذ لنفسه سكناً سريّاً في "دار الفوال" بخان أبي طاقية، ومع ذلك لحق به طلاب الأزهر، وفيما هو يخرج من بيته - في نفر من تلاميذه - اعتدوا عليهم بالعصيّ وآذوهم إيذاء شديداً، ووصل الأمر بالأفغاني إلى أن بدأ في تشكيل جمعية سرية، كان من أهدافها اغتيال الخديو إسماعيل باشا، وهو أمر أكده الشيخ محمد عبده" [Engish Occupation of Egypt – p.489 Blunt – Secert History of]. 
وأخيراً يصدر بيان رسمي يقول: "إن جمال الدين الأفغاني كان رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا، وقد تقرّر طرده من مصر"، وفيما يتجه الأفغاني إلى السويس ليبحر من هناك - ومعه تابعه عارف أبو تراب، حاملاً صرّة ملابسه - تقدم إليه القنصل البريطاني عارضاً مساعدة مادية، فقال الأفغاني مترفّعاً: "كلاّ يا حضرة القنصل، إن الأسد لا يعدم فريسة". 

شارك