الحركة الإسلامية.. من التنظيم إلى المجتمع

الخميس 11/يونيو/2015 - 06:48 م
طباعة
 
أتى حين من الدهر على الحركة الإسلامية لم تكن شيئا مذكورا، وحين عبَّر مؤسسوها عن حرقة المجتمع الإسلامي على ضياع الخلافةّ، هب إلى تنظيماتها الأفراد والجماعات طامعين في لَمِّ الجراح بعد توالي الهزائم وحين عز الانتصار. لكن سرعان ما انتابها شعور بأن المجتمع جدير بخدمتها ولم تلتفت إلا قليلا إلى أن أوجب واجباتها خدمة المجتمع. 
قد يقول منظر أو مناصر للحركة الإسلامية: وهل وُجدت الحركة الإسلامية إلا لخدمة المجتمع، وكيف لا تخدم كيانا هو منها وهي منه؟ أقول: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين؟ 
ما النسبة التي يمثلها أعضاء تنظيمكم داخل المجتمع؟ وهل تعكس معظم صور المجتمع مرجعيتكم الفكرية والقيمية؟ ألا تحلمون بانتماء معظم أفراد المجتمع إلى تنظيمكم؟ ولم تسارعون إلى ضم الوافدين على الجلسات؟ ألا تعرضون خدماتكم الاجتماعية بالقدر الذي يعود به النفع على التنظيم؟ متى ستمسكون عن إعطاء الأولوية لأعمال وأنشطة التنظيم على حساب أنشطة وأعمال المجتمع؟ ألا تحاولون تطويع جمعيات المجتمع لكي تراعي حسابات التنظيم ورغبات حرسه القديم؟ أ يُعقل أن يَهتف المجتمع بالولاء للتنظيم؟ أما آن لقلبوكم أن تخشع بالولاء للمجتمع؟ !     
تأملت هذه النزعات عند أبناء الحركة الإسلامية فوجدتها ناتجة عن دوافع سياسية وفكرية ونفسية، وكل منها يؤثر بصورة من الصور في الآخر.
 فحين تعتقد الحركة الإسلامية أن معركتها الحقيقية والحاسمة هي ضد الأنظمة السياسية القائمة،  تتوجه لا إراديا إلى جعل المجتمع خادما لأجندتها السياسية، ويصبح الجدير بالتعامل معها كل من ينخرط في صفوفها، ليصير بذلك التنظيم عندها وسيلة وغاية؛ تنطلق كل الأعمال منه ويعود كل نفع مادي أو بشري إليه، وتبلغ درجات الحلول في التنظيم ذروتها حين يتأسس الولاء والبراء على الانتماء أو التعاطف مع التنظيم، ويتحول التنظيم إلى أداة استقطاب وحشد متواصل تأهبا ليوم الوعيد: يوم الثورة المجيد.
ولو تَفَكَّر من أسس لهذا المنهج طبيعة المجتمع وما يحفل به من تناقضات وتعدد في المذاهب والأفكار والتجارب، وفَقِه الميكانيزمات الجديدة التي تصنع التغيير، وتَأَمّل حال الأمة وما ألَمّ بها من نوائب جعلتها تعيش على هامش التاريخ، ورَصَد ما تراكم عليها من انكسارات وانهزامات وانحطاط، على الأقل منذ القرن 19م، لعَدَل عن نهجه الكلاسيكي الذي انتهت صلاحيته يوم توقفت الأمة عن صناعة التاريخ أو التأثير فيه؛ إذ انتهى عصر تقوم فيه دعوة لتقضي على دولة مثلما كان حال دعوة بني العباس ودولة بني أمية.
اليوم تغير كل شيء: موازين القوى، العلاقات الدولية، نظم الدولة، طبيعة المجتمع، ومن الخبال والضلال أن نغالب الواقع المعاصر بمنطق الماضي. إن عالم اليوم راكم تجربة ثرية على مستوى الممارسة الديمقراطية داخل حدود الوطن القومي بوّأت المواطن والمجتمع المدني مكانة متقدمة سمحت لهما بالتأثير في صناعة القرار وبناء المجتمع. 
 نعم قد تكون بعض القوى غير راغبة بالتمكين للمجتمع وتعمل على الحد من تأثيره عبر التحكم والتطويع والتشويه، لكن على الحركة الإسلامية أن تؤمن بالبعد الاستراتيجي والمستقبلي لخطورة تأثير المجتمع، وألا تصرفها إلى خدمة التنظيم فتكون بمَعِيّة القوى السالفة للمجتمع من الظالمين.   
وقد تكون فكرة التمركز حول التنظيم عند بعض الحركات الإسلامية أو عند بعض أبنائها نابعة من اضطراب نفسي، إذ أن ما أدعو إليه يدفع إلى اختيار جديد وفيه تَخَلٍّ نسبي عن تنظيم محوري قطع أبناؤه أشواطا تاريخية من أجل بنائه، ونسجوا من خلاله علاقات وَلَّدت حالة عاطفية يصعب تجاوزها. فكيف لتنظيم كان هو كل شيء ويقوم بكل شيء أن يصير مجرد شيء؟ !  إن ما استجد من تحولات يضع بعضا من الحركة الإسلامية وأبنائها أمام علاقة مستحيلة؛ أشبه ما تكون بِحُب حَكَمت السماء على  طرفيه بالانفصال تفاديا لمآلات السقم والموت والدمار. 
وحتى إذا توجهت إرادة حركة إسلامية إلى اختيار يفضي بحلول أبنائها في باقي هيئات المجتمع، فإن عاطفة مرضية تقوم ثائرة للوقوف دون ذلك باسطة عدة ذرائع أبرزها الاستنزاف التنظيمي والانحراف التربوي، وكأنها لا زالت تعيش زمن الحرص على قوة التنظيم للانقضاض على الحكم، أو كأن التربية والارتقاء الروحي يستحيل أن يكونا خارج التنظيم.
بل إن كل من استغرق جل أوقاته داخل أنشطة التنظيم يمكن أن يصاب بما أسميه "تنظيمفوبيا"؛ يخاف انحسار العضوية وضعف تردد المتعاطفين، ويخشى قلة حضور الناس إلى أنشطة التنظيم، ويفزعه كل قصف إعلامي يطاله، كما قد يتهيب الخروج من سراديبه بسبب انكماش أو توتر علاقاته الاجتماعية إلا انفتاحا ولباقة وحِلْما يرجى منها خدمة التنظيم. ويمكن أن ينشأ عنده سلوكا عدائيا بوجه كل من يبدي الاختلاف بخاصة إذا كان قليل النشاط كثير الغياب. ثم ترتقي به مقامات الخوف والحلول إلى أن يصير هو التنظيم والتنظيم هو، فيا ليت شعري من المخلص !   
إذا لم تدرس الحركة الإسلامية معادلة التنظيم والمجتمع دراسة متأنية عميقة قد تواجه مشكلات أدناها الجمود والتقليد والانعزال عن المجتمع في مرحلة الدعوة، وأعلاها الصراع والصدام والارتباك في مرحلة الدولة، ولا منجى من كل ذلك إلا بولاء خالص للمجتمع، بعد الولاء المطلق لله الحكيم الرحيم.       

شارك