العدالة المفقودة وغياب التنمية والإفقار.. الوجه الآخر للإرهاب

السبت 08/يونيو/2019 - 12:10 م
طباعة العدالة المفقودة
 
•اسم الكتاب - الإرهاب بذوره وبثوره.. زمانه ومكانه وشخوصه 
•الكاتب- د. هشام الحديدي
•الناشر – مكتبة الاسرة 
ينطلق كتاب "الإرهاب بذوره وبثوره.. زمانه ومكانه وشخوصه"، من علم الاجتماع السياسي ليحلل ظاهرة الإرهاب من منظور العنف الذي يجده الكاتب قيمة سلبية تتساوى في ميزان القيم مع الرشوة والفساد والدعارة والاختلاس وغيرها من الأمراض الاجتماعية.. غير أن ما يميزه (العنف)، ويجعل منه شيئا مخيفا هو ما ينتج عنه مباشرة من زهق للأرواح وإراقة للدماء.. وهو مرض، وعرَضَه الإرهاب بمختلف صوره، ويقول
إنه لا يمكن بحال من الأحوال فصل الإرهاب والعنف عن باقي القيم السلبية التي قد تسود في وقت من الأوقات. فالمجتمع كالجسد، إذا ما انهارت مقاومته وضعفت مناعته، حل به كثير من الأمراض دفعة واحدة – أو ما عرف بـ Opportunistic Infections – وكما هو واضح من الاسم فهي مجموعة الميكروبات التي تتعايش مع الجسد السليم، وتحيط به مترقِّبة لحظة وهن.
والعنف قد يكون مرتبطًا بمجموعة أفراد، وقد يكون حالة عامة، فإذا كان الأولى، فإنه ما يجافي المنطق أن تفرض تلك القلة حالتها النفسية المرضية، وتصبغ بصبغتها مجتمعاً بأكمله، إلا إذا كان هذا المجتمع مستعدًّا لهذا التلقي، أما إذا كانت الحالة الثانية (العامة) فبديهى أن المرض يكون قد استشرى.
المجتمع إذًن نسيج واحد ذو تماسك وارتباط، فإذا أردت أن تغرس فيه شيئاً جديداً عليه، فأنت كمن يحاول دق مسمار في لوح، يكون ذلك سهلاً لو أن المسمار الصلب واللوح من الخشب، ويكون مستحيلاً لو أن اللوح من الصب أيضاً (المسمار واللوح من ذات المادة). وهكذا فكلما قويت اللحمة بين أفراد المجتمع الواحد، صار من العسير اختراقه.
والعنف المجرد هو إحدى الحالات المزاجية المتطرفة للإنسان، وهو قديم قدمه ومديد عمره، فهو أحد تحولات الغضب، وربما كان التحول الأقصى الذي يغيّب فيه العقل فيتساوى الانتحار بالقتل.. إذًا فالعنف هو حالة غضب، والإرهابيون غاضبون والمجتمع العنيف هو مجتمع غاضب.. وهذا بالطبع لا يتعارض مع كونه (العنف) حالة مرضية (التوصيف السابق)، فالمزاج الغاضب مزاج معتل، ولحظة تحول الغضب إلى العنف هي لحظة التحول المرضي.

اهتراء قيمة العدل:

يقول الحديدى أعتقد يقيناً أن أصل الأمر وذروة سَنامه هي في تغييب قيمة العدل؛ فالعنف والعنف المضاد يزدهران حينما تتضاءل قيمة العدل في مجتمع ما، أو تغيب.. وذلك هو أساس الغضب والعنف منذ بدء الخليقة إلى الآن.. فحقيقة الصراع الفطري وجوهره هي رغبة الإنسان الدفينة في التحوز على أكبر قدر ممكن من الموجودات .. هذه الرغبات تنظمها وتردعها القوانين والأعراف المؤسسة على قيمة العدل.. وهكذا فما بين جائر ورادع يقع الصراع.
وقيمة العدل لا تنحصر في المعنى القانوني والإجرائي الضيق، بل تنسحب على كل أوجه الحياة المعيشة، فالمواطنون سواسية أمام القانون وخلفه.. سواسية في الحقوق والواجبات، وسواسية في فرص الترقي والحراك الاجتماعي، وسواسية في ما يحفظ لهم جميعهم كرامتهم وعزة أنفسهم.. وهكذا تصير الديمقراطية الحديثة نوعاً من العدل في إتاحة الفرصة أمام الجميع للتقدم إلى سدة الحكم، وتبقى الهبات الإلهية والصفات الشديدة الخصوصية هي العامل المحدد أو المعوق الأخير، كأني فوز بانتخابات خطيب مفوه أو من حباه الله بـ "كاريزما" شخصية، أو يعلو شأن شاعر أو عالم أو مخترع أو مفكر.
ومثلما كانت الديمقراطية نوعاً من العدل، يكون التعليم والإعلام والصحة وكافة الأوجه الخدمية وكذلك السيادية.. ففرص التعليم والعمل والطبابة والإسكان وغيرها.. كل ذلك يجب أني قدم على خلفية عادلة.. ليس هذا فقط، بل إن السياسة الخارجية كذلك، يستطيع الفرد أني دلو بدلوه فيها، وتكون له مساهمته بالقدر العادل الذي تسمح به مواطنته وخبرته في الحياة.
ولكن يبقى أن المشروع الكبير لإرساء قيمة العدل في مجتمع ما، يلزمه – كأي مشروع استثماري ضخم – بنية تحتية سليمة وقوية، تتحمل ثقل المهام التي تنبثق منها أو تلقى عليها.. والاختلالات في الامتدادات والتطبيقات، أمر وارد، وما الحياة اليومية كما سبق وأوضحنا إلا خلل في تطبيق ما ومحاولة تقويمه.. أما الاختلالات في الأساس وقواعد البنية التحتية، فهي غير مقبولة البتة لأنها ستؤدي حتما إلى انهيار ما بني عليها وما بني بجانبها، وهكذا ينهار الصرح الضخم لو انهار أحد أركانه.
والمقصود بالبنية التحتية في مشروعنا العدلي الكبير، هو المفهوم البسيط وألف باء الأشياء، أي القضاء.. فلا يمكن أن يستقيم عدل في أمة ولا يستطيل، ليظلها بظلاله الوارفة، ما لم يكن القضاء السريع والنافذ والحاسم والمهاب (الذي يملك قوة التنفيذ، ولا يبقى مجرد خيال مآتة)، وليس القضاء الشكلي الكسيح المهترئ، الذي يعدم أن يكفل للضعيف والفقير حقوقهما، بل إن القانون والقضاء في حالتنا (مصر) لا يضمنان أيضاً حق كثير من الأغنياء.. إن أي متشرد أو عاطل يستطيع أن يبني كوخاً من صفيح فوق قطعة من الأرض، في غيبة من صاحبها، فيغل يده تماماً عن الانتفاع بأملاكه.. وهكذا نصل إلى مهزلة من مهازل القضاء في مصر اسمها "وضع اليد".. ليست هذه هي الحالة الشاذة الوحيدة في عالم "العدالة"، بل ما أكثر تلك الحالات.. مثلا؛ يحدث في كثير من الأحيان ونتيجة المواريث غير الموثقة، أن يتعطل القضاء عن الفصل في كثير من القضايا، فإذا حدث وفصل فيها بعد ردح من الزمن، "يبقى الوضع على ما هو عليه" لأن السلطة التنفيذية قاصرة الحيلة عن تفعيل الأحكام القضائية، التي تبقى حبراً على ورق لا طائل من ورائها.. مما قد يضطر أصحاب الحقوق للجوء إلى العنف والقوة الجسدية، لأن نظام الدولة عاجز عن القيام باختصاصاته.. وهكذا نضيف فريقاً إلى طابور الغضبى، وإلى العنف خبرة جديدة (ما عرف في الفترة الأخيرة بـ "البلطجية") وضحايا جدد.
وما يدهشك أن القانون المصري مشلول أمام الكبائر، ومشلول أيضاً أمام الصغائر، فلقد نشر "بريد الأهرام" في ديسمبر من عام 1997 مشكلة – تحدث كل يوم في كل بيت – عن سيدة تفرد سجاجيدها المتربة وتنفضها على سور شرفتها دون أدنى اعتبار لغسيل جارها النظيف المنشور في الشرفة تحتها!!.. هذا السلوك العدواني الصغير لا يجد ايضاً من القانون رادعاً له!.. وما أكثر تلك الصغائر التي تنغص على المواطن العادي حياته اليومية، ولا يجد مني صغي له أو يعيره اهتماما.. وبالتراكم يصل الحال بالناس إلى مرحلة من "التوتر المزمن" وهي حالة مرضية معروفة، وجهها الآخر هو الغضب والعنف، أو قد يفضي هذا التراكم إلى حالة من اللامبالاة والسلبية، وجهها الآخر "اكتئاب مزمن" وهي حالة انعزالية ومرضية أيضاً، تجعل من صاحبها نفسية خصبة لاستنبات بذور العنف وإن بعد حين.
إن تغييب القانون وشل القضاء وترك الناس تتنازعهم أهواؤهم، يفعلون ما يستطيعون، ينتهي بالمجتمع إلى حال من الفوضى تنهار معها هيبة الدولة، ويتحول الناس إلى جموع غضبى، منهم من يكظم غيظه، ومنهم من ينفجر.
حلالة التسيب هذه ليس لها نظر لا في المجتمع المدني ولا في المجتمع القبلي العشائري.. ففي المجتمع الغربي، القانون سيف مسلط فوق رؤوس العباد، وهو قوى وفعال.. فيمكنك مثلاً بالتلفون أن تستدعي الشرطة إذا ما رفع جارك صوت المذياع بعد العاشرة مساءً.
وفي المجتمعات القبلية والعشائرية كاليمن والسودان وأريتريا.. إلخ، هناك حالة متفردة من قانون العشيرة وعرفها الصارم، وفي المجتمعات المتحولة كمجتمعات دول الخليج مثلاً، لا تجرؤ على مجرد تخطي إشارة مرور، ولو كنت وحدك في الشارع، لأن بطش القانون عنيف وحاسم ولا يفرق.
أما في مصر، فيقول الأستاذ الدكتور / حسام موافي (أستاذ الباطنية بالقصر العيني)؛ إن قيمة الشخص ومنزلته ووجاهته تتحدد بالمدى، الذي يستطيع أن يذهب إليه في مخالفة القانون وتحطيمه، كالوقوف في الممنوع والسير في الاتجاه المعاكس، والاستثناء من اللوائح والوصول بعد الموعد، والولوج من الأبواب المغلقة، فيصير ذلك مادة للتباهي والتفاخر، حتى صار الخروج على القانون كالسيجار الكوبي.
ولأهمية العدل في إرساء دعائم الدول، قال الإمام "ابن تيمية": "إن الله لينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة على الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة".. لماذا؟.. لأن العدل غاية كبرى وآخرة، فما يوم الحساب إلا يوم العدل الأكبر، وما الأديان وشرائعها إلا محاولة رد الإنسان إلى جادة الحق والعدل، وجوهر الإيمان ما هو إلا اعتراف ورد للأشياء (كالروح) إلى بارئها ومالكها الحقيقي.
ودولة يتضاءل فيها القضاء، وتضيع فيها الحقوق، هي دولة تمور من الغيظ والغضب ويتعملق فيها العنف، ويختل فيها الأمن، ويعشش فيها الإرهاب.. وأرض تمتد فوقها المظالم هي أرض فوق براكين.. وقديما قال مبعوث فارسي لأمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" وقد رآه نائماً تحت شجرة بلا حراس (وهو من دانت له الأرض من أقصاها إلى أقصاها): حكمت فعدلت فأمنت فنمت!
وللتأكيد على أثر انهيار قيمة العدل في زرع الغضب بالنفوس وتفجير طاقة العنف، نسوق قولة الدكتور . سعد الدين ابراهيم (ندوة الأهرام عن الإرهاب 1998 – الملاحق)
 "إن الشعور المسيطر على المجندين حديثاً في قوافل الإرهاب، ليس الشعور بالفقر، ولكنه الشعور بالحرمان"- وأساسه غياب منطق العدل في توزيع الثروة في المجتمع، وانسداد جميع القنوات المؤدية إلى أي حراك طبقي، يطمح إليه الشاب الفقير، أو المؤدية إلى أي منصب ذي وجاهة اجتماعية يأمل فيه الشاب المتعلم، أو المؤدية إلى مساهمة فعالة في صنع القرار، كما ترغب المجموعات المثقفة – هذا الانسداد المحكم، بالإضافة للشعور الطاغي بفقدان العدل، أديا إلى ذاك التشرذم العصابي المخيف، الذي تهاوت أمامه ستر الأمن والأمان، فأضحيا خيال مآتة في حقل مزروع بالغربان.
ويأتي تطبيق قانون الطوارئ (لمدة تزيد عن 18 سنة) – الآخذ بالشك – ليضيف إلى كارثة تعطيل القانون المدني – الآخذ باليقين، ويكرس حالة اهتراء القضاء، وفوضى القوانين الورقية والمزاجية، ويزيد فوران الغضب في الصدور، ويسقط البقية الباقية من هيبة الدولة، التي تعلى شأن الشك، وتدع اليقين فتعكس المنطق وتقلب الحقائق وتضيع الحقوق.
** وإيجازأً لما سبق، فإن دولة بلا هيبة (لا تصون الحق ولا تثبت العدل) تضم جموعاً شتى من الغضبى والمغضبين والمغضوب عليهم، لهي دولة ضالين غير مأمونين ولا آمنين.

اضطراب الهرم الاجتماعي:

ويضيف الكاتب هناك مأزق اجتماعي خطير وقع فيه المجتمع المصري، غير باقي المجتمعات العربية.. فمصر كانت الأسبق في نيل حريتها واستقلالها، وكانت الأسبق في إدارة شئونها بنفسها.. وكانت تجربتها الاشتراكية، بعد الاستقلال، فريدة من نوعها، كان تتملك الجميع رغبة ثأرية جامحة في الانتقام من كل رموز الماضي، المستعمر والإقطاع ووصمة المجتمع الزراعي والجهل والمرض.. إلخ، لذا اندفع الجميع في حماسة وفورة يحطمون كل ما يربطهم بالماضي، ويتطلعون للمستقبل الذي نظرت به الثورة. وكانت البدايات جميلة، كطفولة الأشياء، الابتسامات واعدة والآمال ندية، الحبو له احتفال، أما أول خطوة فتاريخها لا ينسى.
وهكذا دبت روح جديدة في الجسد المتجمد منذ سنين (منذ نهاية حكم محمد علي 1805 – 1889)، مداخن المصانع ارتفعت بجوار المآذن وأبراج الكنائس والورش والمغازل، والوحدات المجمعة نثرت في ريف مصر وقراها، والمدارس نبتت كالورود التي انبثقت من الطين، والمستشفيات دور تكفكف الدمع في عيون المرضى، ودور الثقافة والمسارح والسينما للتسرية عن المنهكين، والمذياع يبث ليل نهار، أهازيج تزيد الناس حماساً وهمة.. كانت حقبة رومانسية، هي حقبة الخمسينيات. بعدها بدأ طفل (العشر سنوات) يجري ويلعب الكرة، ويتضارب مع أقرانه، فبدأ التصادم ما بين توجيهات الأبوين التربوية، ورغبات الطفل اللامحدودة، وغير المنطقية في أحيان كثيرة، فبدأ الطرفان يضجران من بعضهما بعضاً. وهكذا كانت الستينيات هي حقبة ما بعد الطفولة (فترة المدرسة)؛ تكثر فيها الأخطاء، وتكثر التوجيهات، وتكثر الاختبارات واحتمالات الصواب والخطأ والثواب والعقاب.. وهكذا.. مر المجتمع بتجربة الوحدة وراهن عليها ثم ذاق مرارة الانفصال، ثم بدأ نشاط المخابرات والفساد السياسي والاعتقالات. واختتمت تلك الحقبة بوفاة عبدالناصر (28/9/1970)، المعلم لمدة عقدين من الزمان، وصاحب المدرسة الحديثة في تلقين الشعوب العربية معنى القومية، بعد أن زرع في مجتمعه نبتة طموح جامح، وتطلع لحياة أفضل، والأخطر، بوادر ضجر من وضع اجتماعي قائم منذ عقود خلت.
** وتولى السادات الحكم. وهو صاحب حرب أكتوبر 1973، التي تعدّ علامة فارقة في تاريخ مصر المعاصر.. وتعدّ الفترة السابقة على الحرب امتداداً للماضي بكل تداعياته، أما ما بعد حرب أكتوبر، فكانت فترة مليئة بنقاط الانقلاب والمنعطفات الحادة، أبرزها الانفتاح الاقتصادي وتوقيع معاهدة السلام.
شعر المجتمع المصري بعد الحرب، بأنه قد أدى ما عليه وزيادة، وأن الضائقة الاقتصادية التي بدأت تتصاعد في الستينيات وأوائل السبعينيات، لم يعد لها مبرر، وخاصة أن مبررها الأوحد كان أولوية المجهود الحربي المطلقة.
الانفتاح الاقتصادي، عرض المجتمع المصري لتيارات عالمية عنيفة هزت قيمه بعنف، وقلبت طبقات المجتمع رأساً على عقب وأحدثت تغييراً حاداً في التوزيع النسبي لكل طبقة. والجدير بالذكر أن الانفتاح لم يكن اقتصاديًّا بالمعنى الضيق، بل كان انفتاحاً على العالم، وبالذات من قبل نخبة رجال الأعمال التي اتسعت بشكل مطرد، وبدأوا يفرضون نمط حياتهم المستورد على الهرم الاجتماعي كله، يضاف إلى ذلك ما أحدثته طفرة أسعار البترول (عقب حرب أكتوبر) في دلو الخليج، واتساع سوق العمل أمام المصريين من المتخصصين، ومن العمال والحرفيين، وعلى الرغم من انتماءاتهم لطبقات مختلفة، إلا أنهم عادوا من الخارج حاملين أفكاراً جديدة وأنماطاً استهلاكية ومعيشية مختلفة، وبدأوا جميعا يذمرون من الظلم الطبقي، ويستشعرون جدارتهم بالانضمام إلى النخبة.
أما اتفاقية السلام (كامب ديفيد – سبتمبر 1978)، فقد حملت إلى المجتمع وعوداً سياسية تنتهي بالرخاء، وبالجائزة من جراء الارتماء في الحضن الأمريكي، والتعاون الواعد مع إسرائيل. تلك العوامل مجتمعة أوجدت لدى الشعب المصري طموحاً جارفاً، شمل كل الطبقات، وأوجد حالة من التطلع والترقب الاجتماعي، فصارت كل طبقة تبحث عن فوهة تقذف من خلالها حممها الفائرة إلى الطبقات الأعلى. وشهد المجتمع حالة فريدة من السيولة والغليان، غير أن الإفراز الأخطر لتلك المرحلة، كان هو أبناء الطبقة الفقيرة سواء في المدن أو في الريف، حيث الغالبية العظمى؛ فهؤلاء الذين لم تطلهم الثروة، سواء كانوا فقراء من الأساس أم الذين هبطوا مضطرين من الطبقة الوسطى من صغار البيروقراطيين والتكنوقراط.. هؤلاء جميعاً انتابهم شعور طاغ بالحرمان، ازداد كثافة مع الأيام، وهم يرون جيرانهم أو أصدقاءهم أو أقرباءهم قد أثروا فجأة، واختلف نمط حياتهم تماماً، وصار يفصلهم عن الفقراء ستار معنوي سميك.. ربما كانت الحالة المعيشية لتلك الطبقة الفقيرة، أفضل بكثير من حال الآباء والأجداد والفقراء، يدل على ذلك انخفاض نسبة الوفيات في الأطفال، وارتفاع متوسط أعمار كبار السن، بالإضافة إلى ارتفاع متوسط مداخيل الأبناء، الذين عانوا أكثر من آبائهم من التمايز الطبقي الحاد والملموس عن قرب؛ إذ شمل كل عمارة وكل حي وكل قرية، وكانوا بالتالي أكثر عرضة للإحساس بالنقص والحرمان وظلم المجتمع لهم، وصاروا بالتالي أكثر نقمة عليه.
** وهكذا يمكن إجمالاً القول بأن الشعور بالنقمة على المجتمع الطبقي الجديد ونظامه الحاكم، قد ساد قطاعاً عريضاً من الشعب، وساعد في ذلك العوامل الآتية:
1- الاحتكاك الطويل بالمستعمر، أوجد نوعاً من الاطلاع على ثقافة الغرب وحضارته، مما وسّع تالياً أفق ومدارك الشعب المصري وزاد من تطلعاته.
2- نيل مصر استقلالها مبكراً عن الدول العربية الأخرى، جعلها السبّاقة إلى صوغ الأفكار التحررية والرومانسية الثورية في شكل دولة متحضرة، مع ما صاحب ذلك من آمال عريضة وطموحات.
3- النظام الاشتراكي وتفتيت الإقطاع أسهم في الحراك الاجتماعي بدفع صغار الفلاحين خطوات للأمام، وطبقة النصف في المائة (نخبة ما قبل الثورة) خطوات للخلف.
4- مجانية التعليم والتوسع فيه، وإنشاء السلم الوظيفي الحكومي، والتوسع في النظام البيروقراطي – كل ذلك أسهم في الحراك الاجتماعي، وألقى إلى الطبقات الفقيرة أملاً وقلقاً، وهي التي كانت سادرة في غيها.
5- تضخم النظام البيروقراطي وتحوله إلى سرطان، تعجز الدولة عن تغذيته.. فيجد الآلاف من الشباب وخريجي الجامعات أنفسهم أمام طريق مسدود (بلا وظيفة).. أو مفتوح (بطالة مقنعة) تفضي للاشيء، اللهم إلا التيه الأعظم.
6- الانفتاح الاقتصادي وطفرة أسعار البترول (بعد حرب أكتوبر) واتفاقية السلام، أحدثوا جميعاً في المجتمع حالة فريدة من السيولة واضطراب الطبقات واختلاطها، وكانت الضحية هي الطبقة المتوسطة التي كان عمادها صغار البيروقراطيين، فتهاوت تلك الطبقة، وتهاوت معها قيمها النبيلة والعظيمة، وانضمت إلى الطبقة الفقيرة، وصار الموظف المحترم (سابقاً) يستجدي من أجل العلاج أو زواج الأولاد.. إلخ.
7-الاحتكاك اليومي بين الأغنياء الجدد، بأنماطهم المعيشية الفجة، وبين فقراء اليوم، ومنهم من كانوا أسعد حالاً بالأمس القريب (وأكثر احتراماً) أوجد صراعاً نفسيًّا عنيفًا، وكرّس الشعور بالنقص والحرمان والنقمة على الزمن الرديء (بكل معطياته).
وفي عصر مبارك ظهر توظيف الاموال والتبلد والانفصال عن الناس وتنامى الاسلامي السياسي في الشارع. 

شارك