النظام العشوائي.. يخلق ثقافة تكفير الحياة ويرتدي ثوب الاعتدال

الأحد 30/يونيو/2019 - 01:59 م
طباعة النظام العشوائي..
 
•اسم الكتاب – ثقافة النظام العشوائي تكفير العقل وعقل التكفير 
•الكاتب – دغالي شكري
•الناشر – مكتبة الاسرة – القاهرة 

من لا يخاف الشيخ الغزالي؟

من لا يخاف الشيخ
فوجئت بالدهشة التي وصلت أحيانا إلى درجة الصدمة عند الكثيرين من فتوى أو شهادة الشيخ محمد الغزالي أمام محكمة أمن الدولة في قضية اغتيال الدكتور فرج فوده،
لم تدهشني الفتوى أو لم تصدمني الشهادة، لأن الشيخ الغزالي لم يقل شيئا جديداً أو لم يصدر في كلامه عن موقف جديد،
لم يقل شيئاً جديداً، فقد سبق له فور اغتيال الكاتب الراحل أن برّر عملية القتل بما وصف به فرج فوده من كفر وارتداد، ولم يصدر عن موقف جديد، لأن الرجل له مواقف مشهودة منذ خمسة وأربعين عاما حين أصدر كتاب (من هنا نعلم) رداً على كتاب خالد ( من هنا نبدأ)،
كان خالد محمد خالد ولا يزال رجلاً مسلما عميق الإسلام، وكان ولا يزال لا يرى تناقضا بين الإيمان والديموقراطية، وقد جند كل علمه، وكان عضوا في هيئة كبار العلماء، لخدمة الإسلام والمسلمين والمواطنين جميعا، آمن مبكراً بأن الدين لله والوطن للجميع، وأن حق المواطنة يكفله القانون والدستور، وأنه لا تمييز بين أهل البلاد بسبب الدين أو المذهب، ولكن خالد محمد خالد لم يتخذ من الديموقراطية السياسية إلا مدخلا للديموقراطية الاجتماعية حيث دعا في ذلك الوقت إلى ضرورة الربط الوثيق بين العدل والحرية،
كان الزمن هو العام 1949، وكان الباشوات والملك والانجليز يحكمون مصر بالحديد والنار بعد هزيمة مدوية في فلسطين، وكان الإرهاب قد وصل بالإخوان المسلمين إلى اغتيال الخازندار القاضي الشهير ورئيس الوزراء أحمد ماهر ورئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، وكان الإرهاب المضاد قد تمكن من اغتيال الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين، وكانت البلاد على حافة الحرب الأهلية بأنواعها الاجتماعية والدينية ووصلنا إلى عصر الاستقطاب العنيف بين من يعيشون تحت خط الفقر وهم 99،5 في المائة من مجموع الشعب، وبين من يعيشون في بحبوحة من الثراء الباذخ وهم لا يتجاوزون النصف في المائة، وصلنا أيضا إلى مشارف الفتنة الطائفية في المناطق التي كان يسيطر فيها الإخوان المسلمون على أجزاء من الشارع المصري، وهو (الوقت) الذي كان جهازهم السري – بعد العودة من فلسطين – قد أجاد التدريب والتسليح.
ولولا عودة الوفد إلى الحكم لاحترقت البلاد قبل السادس والعشرين من يناير 1952 بعامين، ولكن الوفد عاد ظافراً فألغى معاهدة 1936 واعطى إشارة البدء للحرب الفدائية في القنال، وأفرج عن كتاب (من هنا نبدأ) لخالد محمد خالد الذي كان صاحبه قد حوكم، وكان الكتاب نفسه قد صودر.
وكان الشيخ الغزالي عضواً بارزاً في جماعة الإخوان المسلمين، فأصدر في هذا الجو الدموي العاصف كتابه (من هنا نعلم)، ولم يحظ الكتاب آنذاك بالشهرة التي نالها كتاب خالد محمد خالد ولكنه الوثيقة الوحيدة التي ترد على صاحب (من هنا نبدأ)، هناك العديد من الكتب والمقالات التي ردت على الشيخ على عبدالرازق عام 1952 حين أصدر كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، وهناك العديد من الكتب والمقالات التي ردّت على طه حسين عام 1926 حين أصدر كتابه (في الشعر الجاهلي)، وهي وثائق سابقة على ميلاد الإخوان المسلمين وظهور حسن البنا، أمّا كتاب الشيخ الغزالي فقد كان ولا يزال الوثيقة الأولى والوحيدة التي ردت على خالد محمد خالد بعد اثنتين وعشرين عاما على بروز الإخوان، وبعد شهور قليلة من اغتيال قائدها،
جاء الكتاب في وقت محدّد ومناسبة محددة: إنه الرد الإخواني الصريح والمعلن على كاتب ينادي بالحرية والعدل في زمن مضطرب غاية الاضطراب، عشية لحظة الانتقال المريرة من عصر الاضطهاد والتبعية إلى فجر الديموقراطية والتحرير (1950)، ولم يحصل الإخوان في أعظم انتخابات حرة عرفتها البلاد حينذاك على مقعد واحد في البرلمان، وأصدر الغزالي كتابه ليقول بأفصح بيان لا للحرية ولا للعدل كما فهمهما خالد محمد خالد المسلم الذي لا يشك أحد في إسلامه وولائه للمقدسات الإسلامية كلها وسعة معرفته بتراث الفقه الإسلامي.
وتحول الكتاب في أيدي خصوم الديموقراطية وأعداء الشعب المصري من السراي إلى أحزاب الأقليات الدستورية إلى سلاح ديني – سياسي، حتى إن الملك فاروق في ذلك الحين أرخى لحيته، وكان هناك في البرلمان من يجرؤ ويسعى إلى تسميته بأمير المؤمنين،
وقرب نهاية الطريق المسدود أمام النظام بأكمله أحرقوا القاهرة حتى تنطفئ نيران الكفاح المسلح في القنال، وقد سُودّت آلاف الصفحات حول حريق القاهرة، فقيل أن الملك والانجليز ومصر الفتاة والإخوان المسلمين والضباط الأحرار هم الذين أشعلوا الحريق، ولكن أحداً لم يشر بحرف واحد إلى حزب الوفد، فقد كان الوفد هو الضحية الأولى للحريق الذي استبدلت الحرب الأهلية المكبوتة به، كان المطلوب هو إحراق الوفد وإزاحته، ولكن النظام نفسه كان قد سقط، وأقبل البديل من آخر معقل يراود خيال القصر والانجليز والباشوات، من الجيش، وهذه قصة أخرى، انتصر فيها العدل والاستقلال لوقت من الأوقات، وهزمت الديموقراطية طيلة الوقت، فانسحب العدل والاستقلال في خاتمة المطاف.
لم يتوقف خالد محمد خالد في أسوأ الظروف وأكثرها عصبية وقهراً عن الوفاء لمبادئه الثابتة، فأصدر منذ بداية الثور على التوالي (الديموقراطية أبداً) و(هذا أو الطوفان) و(لكي لا تحرثوا في البحر) و(في البدء كانت الكلمة) و(محمد والمسيح معا على الطريق)، وكان موقفه المشهود في مؤتمر القوى الشعبية لإصدار الميثاق عام 1962 حين كان الوحيد في لجنة المائة الذي أصرَّ على الديموقراطية السياسية إلى جانب العدالة الاجتماعية حتى النهاية؟ 
بعدها بقليل كان يقود مظاهرة المتعصبين ضد حرية المرأة وضد خروجها للعمل وضد انتخابها في البرلمان وضد مساواتها بالرجل في الأجور وضد اختلاطها به في المدارس والجامعات، كان يقود المظاهرة ضد صلاح جاهين لأنه رسم كاريكاتيراً يناصر الحرية ويعلي من إنسانية الإنسان رجلاً كان أو امرأة، كان يقود المظاهرة – في ظل الحكم الشمولي، أليس كذلك؟ - إلى أبواب جريدة الأهرام في مبناها القديم بشارع مظلوم.
وقد نسي الناس كتاب (من هنا نعلم) لأن كتاباً جديداً كان قد استولى على عيونهم هو كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب، ولكن فقدان الذاكرة يصيب الأفكار في مقتل، لأنك حين تسأل بعضهم عن موقف الإخوان المسلمين من العنف يبرزون لك كتاب المستشار حسن الهضيبي (دعاة لا قضاة) ويتناسون حتى ننسى كتاب (من هنا نعلم) للشيخ الغزالي، وهو كتاب يفتقد الأسس النظرية أو الفقهية التي بني عليها سيد قطب أطروحته حول الجاهلية الجديدة المستمدة بدورها من أطروحة أبي الأعلى المودودي حول الحاكمية، ولكنه لا يفتقد الايحاء المبكر بهذه الأطروحة المبنية أساسا على تسييس الدين، وهو في أغلب صفحاته بذور أولية لمقولات (معالم في الطريق).
ولكن الشيخ الغزالي رجل ذكي، فهو يستطيع أن (يتمايز) عن غيره في الوقت المناسب بالظهور وكأنه إمام المعتدلين حين يصدر كتابا أو آخر يبدو فيه كما لو أنه من المتحررين المجددين وهو الأمر الذي سمح له فترة طويلة أن يكون أحد (أقطاب الإجماع) بين مشايخ آخرين لهم بعض صفاته، حتى إن حكومة الجزائر انتدبته في وقت من الأوقات لتأسيس جامعة إسلامية بدافع (حسن الظن) الذي واكب صورته المعتدلة في الإعلام، لمحاصرة تشدد الإسلام السياسي الجزائري في بداياته الأولى، وبعد سنوات اكتشف الجزائريون أن الرجل يشرف عمليا على تفريغ كوادر الإرهاب السياسي باسم الإسلام، وكشف الملف الجزائري سواء من مناهج التعليم في الجامعة الحديثة الولادة أو من اللقاءات الخاصة والمحاضرات العامة أن المعهد العلمي الذي كان يراد به محاصرة التطرف قد أضحى وكرا للإرهاب،، الارم الذي أدهش المسئولين الجزائريين الذين رغبوا في انتداب شيخ مصري سمعته هي الاعتدال لإنشاء قلعة إسلامية تشبه الأزهر في مصر، وكانوا كرماء في توديع محمد الغزالي ولكن الأثر الذي تركه في النفوس كان من المرارة بحيث لم يزايلهم إلى اليوم، بل هم يقولون لكل من يسأل عن شيوع موجة العنف: إنهم تلاميذ الغزالي.
وكانت الأجواء المصرية هي الأخرى منذ بداية السبعينيات قد تلبدت بغيوم التطرف والإرهاب الذي افتتح الثمانينيات باغتيال الرئيس السادات نفسه.
وفي ظل الضغط العاتي لهذا المناخ كان خالد محمد خالد قد أصدر كتابه عن الدين والدولة الذي تراجع فيه خطوات عن مبادئه الأولى، ولكنه كتاب وحيد لم يعمل منه الرجل تجارة أو شعاراً، بحيث عاد في النصف الآخر من الثمانينيات ليصدر كتابه المهم (دفاع عن الديموقراطية) ويعود فيه إلى سيرته الأولى، والكتاب هو مجموعة الفصل التي نشرها الرجل في جريدة (الوفد لتصل إلى أعرض قطاع جماهيري قارئ قبل أن يضمها، بين دفتي كتاب، أصبح يحدد موقفه القديم الجديد في كل مكان يذهب إليه ليواجه الناس، بما في ذلك حزب التجمع اليساري.
أما محمد الغزالي انصرف إلى موقف مزدوج: أحد الوجهين هو المؤلفات ذات الصيغة التجديدية والصبغة العصرية والأحاديث التليفزيونية التي يدعو فيها إلى الهداية، هذا الوجه هو الذي أعطى الرجل سمت الاعتدال، تماما كالشيخ الشعراوي والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد عمارة والشيخ عبدالصبور شاهين وغيرهم باستثناء مفتي الديار فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي، كان للرجل ولا يزال وجه واحد يمثل لاعتدال المستقيم بحق، أما الآخرون، فقد كانوا أو ما زالوا يضعون قدما في مربع الاعتدال والقدم الأخرى في مربع التطرف، وما زال الشيخ الشعراوي يردد (أقول للحاكم احكمني أنت بالإسلام، لست أريد أن أحكم، بل أدعوك لحكمي بالإسلام)، ماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة أن الحكم ليس إسلاميا، وإن المطلوب هو أن يقوم الحاكم بتغيير الحكم القائم بدلاً من أن يقوم بذلك غيره، ولا يقوم الشيخ الشعراوي مطلقا بتفنيد أطروحات هذا الغير الذي يرى في الحكم الراهن منكرا يستوجب تغييره بالعنف.
أما الشيخ الغزالي والشيخ عمارة، فهما لا يكفان عن تأييد الدعوى المسماة إعلاميا بالتطرف في المنابر التي يكتبان فيها أو يخطبان، وكان الشيخ عبدالصبور شاهين هو (بطل) الفضيحة الجامعية الخاصة بنصر أبو زيد، هذه هي المواقف الحقيقية، أو الوجه الآخر للعملة، فوجهها الأول يستهدف كسب حماية الدولة، وربما كانوا في ذلك يعبرون عن قطاع من أجهزتها، والوجه الآخر هو ممالأة جماعات (التطرف) والتعبير عنها، وربما كان الوجه الأصدق في التعبير عن النفس، وأيضاً عن قطاع في الدولة وأجزتها، ولكنهما في النهاية وجهان متلازمان حتى يضلُ المرء بينهما، فأين الاعتدال وأين التطرف.
غير أنه في اللحظات الحاسمة يغدو (التطرف) هو الاختيار الوحيد، وهكذا كان الأمر في يناير 1992 حين احتشد آلاف المتطرفين، والإرهابيين في ساحة المعرض السنوي للكتاب يستمعون ويصفقون للشيخين الغزالي وعماره وهما يتهمان فرج فوده بالخروج على صحيح الدين، وفي تلك الليلة بالضبط، اتخذت إحدى الجماعات قرارها بتصفية الكاتب الأعزل تصفية جسدية، وحين تمت هذه التصفية لم يتورع الغزالي عن تبرير الاغتيال.
جوهر الأمر هو سلطة التكفير التي أعطاها المشايخ لأنفسهم، ثم أعطوها بدورهم لأي مسلم يرى في هذا الشأن أو ذاك منكراً يجب تقويمه باليد، هذا على الرغم من الأن الإسلام هو الدين الذي لا يعرف الكهنوت، وليس فيه لله وكلاء ما يربطونه على الأرض يكون  مربوطاً في السماء وليس فيه تراتبية لسلطة دينية،
وبموجب سلطة التكفير المستجدة عمليا، والكامنة فعليا في كتاب (من هنا نعلم) للشيخ الغزالي كان الرجل صادقاً مع نفسه إلى أبعد الحدود حتى أفتى غداة اغتيال فرج فوده بأن (الشباب نفذوا الحد في المرتد)، وكان من المستحيل أن يتناقض مع فتواه الأولى حين طلب إليه الدفاع عن أولئك الشباب سماع شهادته فجاءت فتواه الثانية تأييداً للأولى، وهو أمر طبيعي إلى أقصى الحدود، فلماذا الدهشة التي وصلت أحياناً إلى درجة الصدمة؟
لأن صورة الشيخ المعتدل كانت قد اضلت الناس، والغزالي ليس فرداً، بل هو أحد رموز تيار كامل متهم ظلما بالاعتدال، فالحق أن الألف تؤدي إلى الياء كما قال خروشوف قديماً لعبدالناصر عن العلاقة بين الاشتراكية والشيوعية، هكذا الأمر تماماً في الإسلام السياسي، فالبداية القائلة بالدولة الدينية لابد وأن تفضي إلى الإرهاب باسم الدين، لا حل وسطا بين الدولة المدنية والدولة الدينية ولا شوط في هذا الطريق يتوقف عند المنتصف، بل لابد لمسيرة (الجهاد) أن تبلغ غايتها، هذا هو درس التاريخ في كل العصور وكل البيئات وكل الأديان. 
وقد كان الشيخ الغزالي في فتواه الأخيرة ممثلا لتيار كامل ومخلصا لتاريخه الشخصي وتاريخ جماعته الأولى والأخيرة أيضاً،
وربما كان العنصر الايجابي الوحيد في هذه الحكاية التي لم تهدر دماء فرج فوده وحده بل دماء الغالبية العظمى من المثقفين المصريين، بل إنها اشارة البدء لحرب أهلية، هي أن هذه الفتوى أو الشهادة قد نزعت بصدمتها المدوية للضمير العام قناع الاعتدال عن الوجه الحقيقي المسمى إعلاميا بالتطرف.
إنني شخصياً ممن يتحفظون على مصطلح التطرف، لأنه يفترض في المقابل مصطلح الاعتدال، وحتى الإرهاب فهو توصيف خارجي لإحدى الوسائل، وهي العنف، أما الغاية فهي الدولة الدينية وعنوانها الإسلام السياسي: لا اعتدال فيه ولا تطرف، وإنما نظام للحكم الشمولي تحت راية الدين،
وهي الراية التي يقف تحتها الجميع: من حارس البوابة إلى "أمير المؤمنين".

شارك