رجل الدين في الأدب المصري – 12.. سليمان فياض

الخميس 03/سبتمبر/2015 - 08:49 م
طباعة
 
في قصة "الشرنقة"، يقتحم سليمان فياض، ذو التعليم والتاريخ الأزهري، عالم رجال الدين في مرحلة تأهيلهم العلمي قبل احتراف العمل دعاة ووعاظًا وأئمة. يقدم في قصته الجريئة الصادمة معالجة غير تقليدية، قوامها الحياة داخل المعهد الديني في الزقازيق، حيث المئات من الطلاب الذين ينشغلون بكل الاهتمامات الدنيوية التي تبرهن على أنهم بشر مثل غيرهم، يتعرضون لطوفان الضغوط المادية، التي يتصدرها الحرمان الجنسي.
الشيخ سعيد واحد من سكان العنبر ذي الأسرة العشرة، ولا تتوقف القصة عند أصوله الاجتماعية، باستثناء إشارة عابرة إلى أنه "ابن العمدة"، أما عمره فغير محدد، لكنه في نهاية المراهقة أو مطلع الشباب، ذلك أن هواية تربية دودة القز تسيطر على حياته قبل أربع سنوات: "حين كان في الصف الثالث الابتدائي".
مجتمع المعهد، الذي يتم فيه إعداد شباب الطلاب للاحتراف القريب، لا يختلف عن غيره من المجتمعات الإنسانية، التي تجمع بين الطيبين والأشرار. ليس أدل على ذلك مما يفكر فيه سعيد، وهو يؤدي صلاة العصر في العنبر: "أثناء الصلاة خامره الخوف على حافظة نقوده. حين فرغ من صلاته، انحنى قلقًا، ورفع وسادة سريره. كانت حافظته في مكانها، فتحها فوجدها مثلما أودعها، لم تمسسها يد أحد. وضع الحافظة في جيب جلبابه، وعزم على ألا ينساها مرة أخرى".
مثل هذا الخوف يعني أن السرقة فعل شائع مكرر، والسارق بالضرورة واحد من الزملاء الشيوخ. إنهم بشر عاديون، والتخصص في العلوم الدينية لا يعني تفردًا وتطهرًا، الحرمان الجنسي المزمن ينعكس على أفكار وسلوك الجميع، ويتحول إلى مادة للفكاهة دون حرج أو غضاضة. يستيقظ الشيخ عبدالصبور من قيلولته مسكونًا بمشاعر القرف والندم، ويفهم سعيد دوافع الاستياء فيقول له ضاحكًا:
"- مرة أخرى يا شيخ عبدالصمد. في الصباح وفي المساء. أنت أولانا بإتمام نصف دينك.
فنبر الشيخ عبدالصمد متأففًا، وقال:
- من أين يا شيخ سعيد؟ وكيف؟ المال. المال يا شيخ سعيد، لأستريح من نفسي، ومن رؤية وجوهكم.
وضحك رفاق العنبر، فالشيخ عبدالصمد كفيف البصر"!.
الزواج أداة شرعية وحيدة للإشباع لجنسي، لكنه مشروع بعيد المنال بالنظر إلى الفقر الذي يطول الغالبية العظمى من الطلاب، والتغلب على الحرمان المزمن لا يُتاح إلا عبر أساليب وممارسات تصطدم مع ثوابت التعاليم الدينية. يتهيأ سعيد للخروج في نزهة تتطلب التأنق والتعطر، فيقول له الشيخ خضر: "أنصحك بالذهاب إلى سينما ركس، والجلوس للفرجة على الفيلم في صالة "ألف" بآخر الصفوف. ستجد دائمًا جارة. ومن يدري قد تكون الجارة حسناء، ويجذبها عطرك".
التحريض المرح على "الفسق" لا يخلو من الجدية، وللشيوخ الشباب مغامراتهم الشائعة التي تؤكد ضعفهم البشري وخضوعهم لما يتأثر به الآخرون في مواجهة الإغراءات.
على شاطئ بحر مويس، يلتقي الشيخ سعيد بامرأة لا تتورع عن إغرائه بكلمات وحركات لا تحتمل التأويل، وعندئذ يستعيد الشاب ما يحكيه الرفاق في المعهد عن مثيلاتها من النساء، وهي حكايات واقعية مستمدة من تجارب عملية تعني تورط الكثيرين منهم في علاقات "زنا"، يدركون جميعًا أنها محرمة دينيًا، وتستحق العقاب الصارم وفق قواعد الشريعة الإسلامية.
اللقاء بين سعيد والعاهرة التي تسمي نفسها ليلى، لا يختلف في تفاصيله عن أي لقاء تنعقد فيه البطولة لشاب من خارج المؤسسة الدينية. عندما يجلسان على السور الحجري الذي يقصده العشاق، يهرول الباعة نحوهما عارضين بضاعتهم الرخيصة، فهم يعرفون أن الزي الأزهري للشاب لا يضفي عليه خصوصية يتميز بها عن غيره من العشاق، وتعرف ليلى بدورها كثيرًا مما يُقال عن زملاء سعيد الأزهريين.
لا يصمد الشاب طويلاً أمام الإغراء، ويتيقن أنه مهيأ للسقوط في براثن الشهوة: "صمت، ولزم الصمت، تذكر قولة أيوب النبي: اللهم قنا شر التجربة.
وأيقن أنه قد وقع في التجربة. وهمس بإخلاص، بصوت لا يكاد يُسمع: اللهم قنا شر التجربة. وبدا له الله بعيدًا عنهما، وكاد أن يبكي".
النية الكامنة المخلصة في المقاومة لا تعني النجاح في الإفلات من إغراء التجربة، وليس صحيحًا أن الله بعيد عنهما. الصياغة الأكثر دقة للموقف تتطلب الانتباه إلى الضعف البشري وقوة الغريزة التي لا ينجو منها أحد، وطلاب العلم الديني ليسوا استثناء من القاعدة، فهم جزء من أفراد القبيلة الإنسانية.
يدرك سعيد مستسلمًا أن القضاء قد حُم، وتتبخر كل قدرة له على الصمود أمام العاهرة الجميلة المثيرة التي تتحمس لاستكمال المغامرة، شريطة تدبير المكان المناسب، وسعيد بدوره يشتعل ولا مكان عنده: "وعي أنه الآن قادر، في ظلام الليل، على اخذها في حضنه، والانطراح معها على أرض الكورنيش، وأنه لن يتركها قط، حتى لو رُفس بالأقدام، وضُرب بالعصى، أو بطلقة نار، فمن له قِبل باحتمال رغبة كاسحة. لكن، كيف يمكنه أن يفعل ذلك، وهذه العمامة فوق رأسه؟. قال لها فجأة آمرًا:
- سنتصرف بعقل. ضعي ما على رأسك كله في الصرة التي بيدك، واجمعي شعرك كله إلى أعلى.
لم تفهم ما يقصده، لكنها امتثلت لأمره، وراحت تكوم شعرها فوق رأسها، فوضع العمامة فوق هذا الرأس الجميل، والشعر الملموم في جوفها، وهو يشعر بعطر عرقها يفغم أنفه. قال لها بخفة ونشوة:
- شيخ جميل"!
في ظل اشتعال الشهوة الجامحة، يندفع سعيد في مغامرة تفوق الخيال، فهو يصطحب ليلى المتنكرة في ملابسه الدينية إلى المعهد، وهكذا تدخل العاهرة: "حرمًا لم تدخله امرأة قط، في نهار أو ليل".
إنه جنون الشهوة التي لا تُقاوم، وقسوة الحرمان مسئولة عن السلوك الغرائبي المندفع بلا حسابات. يقضي معها ساعات في سريره، محاطًا بزملاء العنبر المستغرقين في النوم، وقبيل الفجر يتم اكتشاف الفضيحة. عندئذ تصل الغرابة إلى ذروتها، ذلك أن زملاء العنبر جميعًا يشاركون الشيخ سعيد في الغنيمة، ولا يتورع الشيخ خضر عن الاستعانة بمنطق متهافت يبرر به الفعلة التي لا سند لها في الدين الذي يدرس علومه:
"- مرة. مرة في العمر يا شيخ عبدالصمد، ثم نستغفر الله ولا نعود إلى مثلها، وباب التوبة مفتوح للتائبين.
لكن الصمت المستنكر ظل سائدًا في العنبر، فراح الشيخ خضر يطوف بينهم قائلاً:
- الظاهر أنكم لستم رجالاً. ألا يريد أحد منكم أن يعرف نفسه، هل هو أهل للنساء، قبل أن يتزوج في الحلال. لمثل هذه الغاية، سخَّر الله مثل هذه المرأة الحلوة".
يستحل فعلاً محرمًا عبر حجة باطلة لا أصل لها، ويستجيب الجميع لنداء الشهوة متتابعين على مضاجعة العاهرة المستسلمة بلا حيلة، لكن الندم يسيطر على ثامنهم فيعلو صوته مستغفرًا، وتتحول الجريمة السرية إلى فضيحة علنية، يعي أبعادها سكان العنابر جميعًا. يندفع عبدالصمد مطالبًا بإقامة الحد على الزانية والزناة، وهو واحد منهم، لكن شيخ المعهد هو من يتصدى للمطلب الشرعي، معارضًا بلا هوادة: "ليس لنا أن نطبق حدًا في هذا المعهد، وفي البلد ولي للأمر، وقضاة. وأرى أن هذا الأمر لو غادر خبره هذا المعهد، فسوف تكون هناك فضيحة كبرى لكل الشيوخ، وسيشمت فينا هؤلاء الإنجليز الذين يعسكرون في ساحة مسجد "أبو خليل" في هذه المدينة، وستكون هناك فتنة في الأزهر كله، لا يعلم مداها إلا الله، والفتنة نائمة، فلا توقظوها".
شيخ المعهد ليس ضعيف الإيمان، لكن الحسابات الدنيوية عنده تنتصر على ثوابت الدين، التي يتحايل عليها بالحديث عن سلطة ولي الأمر والقضاة من ناحية ومخاوفه من شماتة الأعداء من ناحية أخرى. يقنع الرجل بالحل الآمن الذي يتضمن خروج العاهرة آمنة سالمة، وفصل الشيخ سعيد بشكل نهائي، وحرمان شركائه من الدراسة والامتحان عامًا!
لن يكون سعيد شيخًا، لكن الشركاء في فعل الزنا سيتخرجون في المعهد ويحترفون نشر الفضيلة، والتشهير بالخطاة، ومحاربة الفساد الأخلاقي. الاستجابة لوعظهم لن تكون جماعية بطبيعة الحال، فالإنسان خطَّاء بطبعه، والضعف غالب على رجال الدين أنفسهم!.

شارك