الصفقات الحرام بين بريطانيا والإرهابيين.. أسلمة مصر (الحلقة الرابعة)

الإثنين 12/أكتوبر/2015 - 12:24 م
طباعة الصفقات الحرام بين
 
ما زلنا نستعرض التاريخ السري التآمري بين بريطانيا والأصوليين كما كشفتها الوثائق السرية للمخابرات البريطانية وجمعها الكاتب مارك كورتيس في هذا الكتاب الوثائقي المهم، وفي الحلقات السابقة استعرضنا الدور البريطاني في صناعة دولتين هما السعودية وباكستان وتحالفها معهم في تمويل الإرهاب، وكشفنا عن علاقة بريطانيا مع الإخوان، وفي هذه الحلقة نكشف عن الملف الأخطر ودور المملكة المتحدة في أسلمة مصر. 
في أعقاب الهزيمة 
بحلول أواخر الستينيات كانت الأحداث التي تجري في الشرق الأوسط تثبت أنها الأكثر حسمًا بالنسبة لمستقبل التطرف الإسلامي العالمي، فخلال حرب الأيام السته في 1967، أنزلت إسرائيل هزيمة مفجعة بالدول العربية، بقيادة النظامين الوطنيين العلمانيين في مصر وسوريا. واستولت إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة، والقدس الشرقية، ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء، وقد اعتبر ذلك هزيمه للقومية العربية العلمانية باعتبارها قوة كبرى، بيد أن جاذبية القومية العربية كانت حينذاك قد طفقت تذوي بالفعل. وعلى الرغم من أن النظم القومية نجحت في بعض الأوقات في تحدي الهيمنة الغربية في المنطقة، وحققت بعض المكاسب المحيلة لشعوبها، فقد فشلت في إقامة ديمقراطيات حقيقية، أو تحقيق زيادة كبيرة في مستويات المعيشة.
كما لعبت المعارضة السعودية إلى جانب رعاية السعودية "لكتلة" إسلامية وقوى متأسلمة أكثر تطرفاً، دوراً أساسياً في انهيار القومية العربية. ولنحو عقدين تقريباً، منذ ثورة عبد الناصر في مصر 1952، نصبت لندن نفسها لمعارضة المشروع القومي، مزعزعة للاستقرار ومطيحة بالحكومات، وصارعة لها أرضاً بحروب باهظة التكلفة بددت موارد نادرة، وحاجبة عنها المعونة أو المساندة الدولية. ولا أحد يدري ما إذا كان التأييد الغربي للقومية العربية سيستطيع في عالم مختلف أن يدرأ أسوا سماتها ويعزز السمات الفضلى فيها. ومع ذلك فإن مصالح الناس في المنطقة لم تكن بذات شأن بالنسبة للمخططين البريطانيين، فنادراً ما كانت هناك إشارة إليها في مئات الوثائق التي جرى استعراضها؛ من أجل هذا البحث- فقد كانت مصالح أهل الشرق الأوسط تتم التضحية بها على مذبح الشواغل الجغرافية الاستراتيجية، والشواغل المحافظة بصورة عميقة، والتي لا يزال على المنطقة أن تتخلص منها.
وقد اعترف المخططون بأن انهيار القومية العربية يحقق مصالحهم. ومثلما كتب سفير بريطانيا في السعودية بعد ذلك بخمس سنوات:
في مجال الشئون الخارجية كان الملك فيصل منذ سنتين مضتا فحسب- معزولاً في العالم العربي مع انتشار العدوى اليسارية.. واضطر للبحث لنفسه عن مكان في مناخ إسلامي أكثر وداً.. وتوافرت للملك فيصل فرصة للقيام بدوره نتيجة لوفاة الرئيس عبد الناصر وغياب أي رجل دولة له مقام مماثل من المشهد العربي.. واستمرت السياسة الخارجية السعودية تسعى وراء هدف اعتراض انتشار الشيوعية والتخريب.
وفي البدء، بدأ كما لو أن لندن هي المستفيد الأول من انهيار القومية العربية، ولكن واشنطن فضلت بديلاً آخر- الملكيات الإسلامية في السعودية والأردن والخليج، التي قدمت لها مساندة ضخمة. لكن كان المستفيد الأكبر بديلاً متأسلماً أكثر تطرفاً. فقد لاحظ المسئولون البريطانيون أن هزيمة العرب في 1967، أعقبها "إحياء ديني ملحوظ" و"زيادة مرموقة في المشاعر الدينية في مصر"، بما في ذلك زيادة المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية. وأصبحت الجماهير الفقيرة ترى القوى المتأسلمة حينذاك باعتبارها "الحل" لمشاكل الشرق الأوسط، وساعدت على ذلك الفجوة الهائلة في مستويات المعيشة القائمة بينها وبين الصفوة العلمانية. وفي مصر مات عبد الناصر الذي كانت مكانته قد تضاءلت بعد ثلاث سنوات من حرب 1967، ونأى خلفه أنور السادات بنفسه عن النموذج القومي وسعى لأسلمة المجتمع المصري جزئياً برعاية الإخوان المسلمين، الذين كان عبد الناصر قد قمعهم.. وبحلول ذلك الوقت كانت جماعات متأسلمة كثيرة في الشرق الأوسط قد أصبحت أكثر تطرفاً، جزئياً بسبب القمع الوحشي الذي مارسته ضدها نظم علمانية كثيرة . كان المسرح مهيأً للإحياء المتأسلم الذي اكتسح المنطقة طوال السبعينيات.
أسلمة مصر:
في سبتمبر 1970، كان الملك حسين يسحق الفلسطينيين وتولى أنور السادات نائب الرئيس رئاسة مصر عند موت عبد الناصر. ولم يغب عن الرئيس المصري الجديد قرار الإخوان المسلمين بالوقوف إلى جانب الملك حسين في الأردن، وكانت له علاقات قوية مع الإخوان المسلمين ترجع إلى الأربعينيات. وباعتباره رئيساً، رفض السادات قومية عبد الناصر العربية، وطهر الحكومة من الناصريين وطرد المستشارين السوفيت في 1972. وبدلاً من ذلك، كانت استراتيجية السادات هي أسلمة المجتمع المصري وشكل تحالفاً جديداً مع الولايات المتحدة. وكانت واشنطن جد متلهفة للعمل مع السادات لكي تنتقل مصر من جانب الولايات المتحدة في الحرب الباردة، إلى حد أن صناع السياسة ومسئولي المخابرات "اعتبروا إعادته لليمين الإسلامي أمراً حميداً وشجعوه ضمناً". والواقع أن سياسات السادات ساعدت في التعجيل ببزوغ التطرف الإسلامي العالمي.
وكان هذا بالنسبة لبريطانيا مثلما هو بالنسبة للولايات المتحدة حالة من عودة الدجاج إلى مجثمه ليبيت فيه. فقد ظل البريطانيون يتآمرون مع القوى المتأسلمة ضد عبد الناصر، عدوهم الرئيسي في الشرق الأوسط طوال الثمانية عشر عام السابقة، وساعدوا في هزيمة القومية العربية باعتبارها قوة سياسية كبرى. وحينذاك انضمت هوايتهول والولايات المتحدة في مساندة السادات.. وهما تدركان أن النظام لم يكن ديمقراطياً "جداً" مثلما لاحظ السفير البريطاني في 1975، لكنهما رحبتا به باعتباره قوة معتدلة لتحقيق الاستقرار في المنطقة. لكنها لم تكن كذلك في كل شيء.
وشملت عملية الأسلمة الواسعة التي قام بها السادات للمجتمع المصري ترسيخ مكانة الإسلام باعتباره دين الدولة في دستور 1971 وقلب اتجاه سياسة عبد الناصر إزاء الإخوان المسلمين، وأطلق سراح بعض الإخوان من السجون، وأعلن عفواً عاماً عن كل الذين سجنوا قبل مايو 1971. وبحلول منتصف السبعينيات، كان السادات- بدعم من السعوديين- يسمح للإخوان المسلمين بالعودة من المنفى الذي فرضه عبد الناصر عليهم في السعودية، حيث أصبح كثير منهم أثرياء. وفي الوقت نفسه، أقام السادات علاقة سرية مع كمال أدهم، رئيس المخابرات السعودية؛ مما شكل وفاقاً مصرياً سعودياً جديداً وقطيعة حادة مع العداوة المريرة في ظل عبد الناصر.
وشد الإخوان المسلمون الذين حررهم السادات الرحال تجاه الجامعات المصرية، التي أصبح الكثير منها بحلول أوائل التسعينيات تحت سيطرة الحركات المتأسلمة التي أزاحت هيمنة الأيديولوجية القومية. وفي ذلك الوقت، بدأ المثقفون المتأسلمون في حرم الجامعات ينشرون أفكارهم في كل أرجاء العالم الإسلامي، مستفيدين من الشبكات والمنح المالية المقدمة من الوهابيين السعوديين، خاصة في أعقاب النزاع العربي الإسرائيلي في 1973. وكانت مجموعتان اجتماعيتان مهمتان من بين المجندين الجدد للحركة - حشود فقراء المدن الشبان من خلفيات تعاني من الحرمان، والبرجوازية الورعة، وهي طبقة كانت من قبل مستبعدة من السلطة السياسية وتقيدها النظم العسكرية والملكية.
وشجعت إدارات الأمن في عهد السادات صعود الإسلام الراديكالي بالمساعدة في تكوين مختلف المجموعات الصغيرة من المتشددين؛ بغية التصدي لبقايا المجموعات الطلابية التي كان يقودها الناصريون والماركسيون. وتشكلت الجماعات الإسلامية في حرم الجامعات بمعاونة مساعد السادات محمد عثمان إسماعيل المحامي السابق، والذي يعتبر "الأب الروحي" للجماعة. وبحلول أواخر السبعينيات، دعت الجماعة للحياة الإسلامية النقية ونظمت معسكرات صيفية لكوادرها، شملت التدريب الأيديولوجي، ودفعت المنظمات الطلابية اليسارية للعمل سراً تحت الأرض. وظلت الجماعة حليفاً وثيقاً وأداة مفيدة لحكم السادات حتى 1977 عندما طار الرئيس إلى القدس لإجراء مباحثات سلام مع إسرائيل.
وفي مقابل انفتاح السادات على الإخوان المسلمين، قدم الأخيرون تأييداً حماسياً للنظام وسياساته الاقتصادية الليبرالية الجديدة لتشجيع المشروعات الحرة. فعلى النقيض من سياسات عبد الناصر القومية على طول الخط، كان وراء أخذ مصر بالليبرالية الاقتصادية برنامج وضعه صندوق النقد الدولي، وحظي بتأييد أنجلو أمريكي قوي، وانطوى على تقليل دور الدولة في الاقتصاد وتشجيع سياسات التجارة والاستثمار المواتية للمستثمرين الأجانب. وزادت هذه السياسات عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء، وعملت أداة تجنيد أخرى استخدمتها الحركات المتأسلمة في السبعينيات والثمانينيات، ليس في مصر فحسب لكن في أماكن أخرى من العالم الإسلامي. استطاع الإسلاميون المتطرفون أن يؤيدوا مشروع "السوق الحرة"، الحديث أيضًا باسم مقاومة الهيمنة الأجنبية واستغلال "الشعب"، في حين طفقوا يقيمون قاعدة شعبية ويقدمون خدمات اجتماعية حيوية لم تعد الدولة تقدمها.
وشهد المسئولون البريطانيون السادات وهو يستخدم الإخوان المسلمين لتدعيم النظام، مثلما شهد جيل سابق الملك فاروق، وعبد الناصر في البدء، وهما يفعلان ذلك. ونظروا لاستراتيجية السادات بطريقة مواتية، شرط أن يتمكن في نهاية المطاف من السيطرة على هذه القوى- وهو تحديداً القلق الذي كان قد انتاب المخططين السريين البريطانيين فيما يتعلق باستخدامهم هم انفسهم للإخوان للإطاحة بعبد الناصر في الخمسينيات. وفي 1971 اعترف المسئولون البريطانيون بأن "السادات ربما أغراه استغلال مثل هذا السلاح المتاح تحت الطلب"؛ مما يعكس التصور البريطاني قديم العهد عن الإخوان. كانت المنظمة تحظى "بنهضة" في ظل السادات، لكن الخطر كان يتمثل في أنه "قد يبخس قدر صعوبة الإبقاء عليها تحت السيطرة". وقد أوردت وزارة الخارجية أن السير ريتشارد بومونت السفير البريطاني:
يرى أن السادات قد يرغب في استخدامها [منظمة الإخوان] كثقل موازن لقوى الجناح اليساري، لكن بالمثل فإن أداء السادات حتى الآن لا يوفر أي مبرر للاعتقاد بأنه يرى جانبها الأكثر تعصباً، مثل أن اتجاهها نحو كراهية الأجانب أصبح عاملاً مهيمناً في السياسة المصرية. ومن ناحية أخرى، فإن استخدام إخوان مسلمين فرادى لتخفيف غلواء منظمات سياسية أخرى بدلاً من تشجيع الإخوان في حد ذاتهم، ربما يلائم أهداف السادات على نحو أفضل.
وهكذا استمر كبار المسئولين البريطانيين في مصر في الاعتراف بقيمة التآمر مع قادة الإخوان، مثلما فعل المسئولون في سفارتهم في الخمسينيات. والواقع أن حسن الهضيبي الذي كان البريطانيون قد تعاملوا معه حينذاك، كان لا يزال في موقعه عندما كتب بومونت هذه الأفكار. ولم تكشف الملفات الحكومية التي رفعت عنها السرية ما إذا كان للبريطانيين صلات بالهضيبي في ذلك الوقت، وقد مات الهضيبي في 1973.
وقد أجدى اعتقاد السادات بأنه يستطيع أن يروض الإخوان، ويستميلهم ضد معارضيه السياسيين اليساريين والشيوعيين إلى حد ما، لكن الإخوان استطاعوا عن أن يساندوا النظام صراحة، على الأقل منذ أن رفض السادات السماح لهم بالعمل كحزب سياسي. كما فشل السادات في إدراك أن الأسلمة الكاملة للمجتمع هي وحدها التي كان يمكنها أن تلبي مطالب الجماعات الأصولية. وفي حرب أكتوبر 1973 العربية الإسرائيلية- عندما حققت الدول العربية بقيادة مصر مكاسب إقليمية مبكرة ضد الجيش الإسرائيلي قبل أن تصل إلى طريق مسدود- نشر السادات شعارات الإسلام لإلهاب حماس مصر، على النقيض من استعانة عبد الناصر بالقومية العربية في حرب 1967. لكن مفاتحة السادات لإسرائيل وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد في سبتمبر 1978، والذي ادى إلى ابرام معاهدة سلام مع إسرائيل، أكد للمتأسلمين المتطرفين، النزاعين إلى تدمير إسرائيل، أن السادات بوضوح ليس حليفًا. وكانت رعايته السابقة للمتأسلمين المجاهدين قد أدت حينذاك إلى تكون حركة جهادية عنيفة في البلاد. وأدرك السادات تهديد ذلك النظام بعد فوات الأوان، فلم ينقض النظام على الجماعة الإسلامية إلا في 1981، وحلها في سبتمبر.
وفي الشهر التالي تم اغتيال السادات على أيدي تنظيم الجهاد، الذي كانت جذوره تمتد إلى الجماعة الإسلامية في جامعة أسيوط في صعيد مصر، على غرار تلك التي كانت قد تشكلت بمساعدة الحكومة في أوائل العقد. وفي الثمانينيات انقسم أعضاء الجهاد إلى مجموعات أخرى، خاصة جماعة الجهاد الإسلامي، التي كان يقودها أيمن الظواهري، والتي تطوع مجاهدوها للحرب في أفغانستان. وعلى الرغم من أن كثيرين من أعضائها وقادتها كانوا مثل الظواهري إخواناً مسلمين سابقين، فإن هذه كانت منظمات أكثر عنفاً أصبحت متمايزة عن الإخوان. وهاجمت الإخوان لافتقارها لروح الجهاد ولقبولها بعض مفاهيم الديمقراطية بدلاً من إخضاع كل السلطات في الدولة لإرادة الله. وحينذاك بدأ التأسلم العنيف سادراً في غيه.
كان اغتيال السادات لطمة للاستراتيجية البريطانية والأمريكية في الشرق الأوسط، لكن برنامجه للأسلمة في مصر كان يثبت بالفعل أنه مفيد في إحدى العمليات السرية البريطانية الأمريكية. فقد كانت العناصر المتأسلمة المتطرفة من مصر من بين من تطوعوا لمحاربة السوفيت في أفغانستان بعد 1979، وتولت دور القيادة الرئيسي هناك، برعاية نظام السادات ومعاونة نقود السعودية. وهكذا استمرت هذه القوى "أسلحة تحت الطلب" يعترف بها المسئولون البريطانيون، وإن كان بعيداً عن مصر نفسها. لكن قبل التحول لهذه الأحداث، سننظر في الأحداث الضخام التي جرت في 1973، وبالأحرى تعميق تحالف بريطاني سعودي غير عادي.
 التدريب على الإرهاب: الجهاد في أفغانستان
كانت الحرب على الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في الثمانينيات إشارة للمرحلة التالية في تطور التطرف الإسلامي العالمي، استناداً للانبعاث الإسلامي الذي حد في العقد السابق. فعقب الغزو السوفيتي في ديسمبر 1979، تدفق عشرات الألوف من المتطوعين من كل أرجاء العالم الإسلامي للانضمام لإخوانهم الأفغان ومحاربتهم الشيوعيين. وخلال الحرب مضوا إلى تشكيل جماعات مناضلة من المجاهدين استهدفت بلدانها الأصلية والغرب في نهاية المطاف في عمليات إرهابية. وتم دعم هؤلاء المجاهدين وجماعات المقاومة من أهالي أفغانستان الذين ارتبطوا بهم، بمليارات الدولارات كمعونة وتدريب عسكري قدمته أساساً السعودية، والولايات المتحدة، وباكستان، وبريطانيا أيضاً.
وكان لبريطانيا بالفعل تاريخ طويل في دعم القوى المتأسلمة والعمل إلى جانبها في الوقت الذي عبر فيه السوفيت الحدود الأفغانية، لكن التآمر مع المجاهدين في أفغانستان كان شيئاً مختلفاً عن هذه الوقائع السابقة، كان جزءاً من العملية السرية الأشد اتساعاً لهوايتهول منذ الحرب العالمية الثانية. كانت المشكلة مع الغزو السوفيتي لباكستان، كما أوضحت رئيس الوزراء مارجريت تاتشر بعد توليها منصبها بستة شهور هي "أنه إذا دعم الاتحاد السوفيتي قبضته على أفغانستان، فإنه سيوسع في الواقع حدوده مع إيران بصورة شاسعة، ويكتسب تخوماً تربو على 1000 ميل على امتداد باكستان، وسيقترب لمسافة تجعله في حدود 300 ميل من مضيق هرمز، الذي يسيطر على الخليج الفارسي". وفي العلن، أنكرت رئيس الوزراء وغيرها من القادة البريطانيين تورطهم العسكري في أفغانستان، وادعوا أنهم يلتمسون حلولا ديبلوماسية صرفة للنزاع. والواقع أن المعونة السرية البريطانية للمقاومة الأفغانية كانت قد بدأت تتدفق حتى قبل الغزو السوفيتي، في حين صرحت هوايتهول لجهاز المخابرات الخارجية بالقيام بعمليات في السنة الأولى من الاحتلال السوفيتي، نسقها جهاز المخابرات في إسلام آباد بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية وإدارة المخابرات في باكستان. وكانت برامج التدريب البريطانية الأمريكية السرية حاسمة، حتى إنه لم يكن لدى كثير من القوى الأفغانية الأهلية، والغالبية الشاسعة من المتطوعين المجاهدين الذين وفدوا لأفغانستان، أي تدريب عسكري. كانت تلك سياسة ترتبت عليها عواقب عميقة.
جهاد إسلامي واحد، اثنان، ثلاثة:
فى مطلع السبعينيات، كانت أفكار الإخوان المسلمين قد حظيت بذيوع واسع في أفغانستان؛ حيث سافر الطلاب المصريون والأفغان الذين كانوا يدرسون في جامعة الأزهر الشهيرة في القاهرة، إلى بلدي كل منهما الآخر. وكان أحد خريجي الأزهر هو أبرز شخصية بين المتأسلمين الأفغان: برهان الدين رباني، وهو أستاذ جامعة طاجيكي، انتخب في 1972 رئيساً للجماعة الإسلامية في أفغانستان، وهي حزب إسلامي يستلهم المفكرين القياديين في الإخوان المسلمين، حسن البنا وسيد قطب، وحزب عبد الأعلى المودودي الذي حظي بتأثير كبير على أجيال من المتأسلمين والمجاهدين، يؤمن بأن الحضارة الحديثة تؤدي بالعالم إلى التهلكة، وأن الإسلام وحده هو الذي يستطيع إنقاذه. وطرح فكرة القيام بثورة إسلامية يمكن أن تؤدي إلى إقامة دولة إسلامية، وهو هدف ثوري سعت الجماعة الإسلامية في الإعداد له إلى توعية المجتمع. وكان نائب رباني في الجماعة الإسلامية هو عبد الرسول سياف، وهو محاضر في جامعة كابول له انتماءات أيضًا للإخوان المسلمين، في حين كلف مهندس مدني شاب من الباشتون هو قلب الدين حكمتيار بالأنشطة السياسية للحزب.
وخلال منتصف السبعينيات، قيم جون درنكال السفير البريطاني في كابول، الإخوان المسلمين الأفغان باعتبارهم "محافظين" و"خطراً محتملاً" على المصالح البريطاينة هناك، لكنه واصل للفارقة ليقول: "إنني لا أعطي لهذا الخطر مرتبة عالية جداً. لم يكن مصطلح الإخوان يعني منظمة متمركزة، لكن مصطلح "ينطبق بصورة فضفاضة على أي مجموعة من المتحمسين دينياً"، في حين كان "من غير المرجح" أن تكون لهم صلات بتنظيم الإخوان الدولي. بيد أن مسئولاً آخر في السفارة البريطانية لاحظ أن "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.. لا يزال ناشطاً في أفغانستان، بما في ذلك جامعة كابول والجيش".
وكان البريطانيون في السبعينيات ينظرون إلى أفغانستان بنفس طريقتهم خلال المباراة الكبرى في القرن التاسع عشر: إنها بلد المصالح التجارية لبريطانيا صغيرة فيه، لكن المسئولين أكدوا أن "الأمر يستحق بعض الاهتمام للإبقاء على العلاقة الوثيقة مع الحكومة الأفغانية"؛ حيث إن "أفغانستان لها موقع استراتيجي، ولدى الحكومة الأفغانية عادة معلومات عرضية مثيرة للاهتمام عن شئون جيرانها". وقد حكم ملك موال لبريطانيا، هو ظاهر شاه أفغانستان منذ 1933 بنظام اعترفت وزارة الخارجية "أنه ضعيف وغير كفؤ، يعرقله برلمان غير خاضع للسيطرة وغير مسئول عن تلقي خلفية من السخط الشعبي، خاصة بين الطلاب". كانت الأحزب السياسية محظورة. وفي الوقت نفسه كما واصلت وزارة الخارجية القول: "فإن علاقتنا مع أفغانستان حالياً أفضل مما كانت عليه لنحو 130 عاماً؛ مما يعكس النمط التاريخي للدعم البريطاني للنظم التي لا تحظى بالشعبية".
وفي يوليو 1973، أطاح انقلاب عسكري بالملم وكان يقوده شقيق زوجته محمد داوود خان، وهو رئيس وزراء سابق. وقد دبر الانقلاب ضباط من الجناح اليساري، كان كثيرون منهم قد تلقوا تدريبهم في الاتحاد السوفيتي، وإن كان داود "أولاً وقبل كل شيء وطنياً عقد العزم على الحفاظ على استقلال أفغانستان وحريتها في العمل". وأقام داود جمهورية، وأعلن نفسه رئيساً، وعقد اتفاقيات بشأن استيراد السلاح والتدريب العسكري مع الاتحاد السوفيتي. ولدعم نظامه، سرعان ما تحرك داود لعمل ضد الحركة المتأسلمة، وسجن بعض شخصياتها القيادية، بمن فيهم سياف، في حين هرب آخرون، منهم رباني وأحمد شاه مسعود، وهو طالب هندسة طاجيكي عبر حدود أفغانستان الجنوبية إلى باكستان.
وفي الوقت نفسه، كانت باكستان تخشى من أن يستمر داود في متابعة قضية باشتونستان- وهي إقليم يقع تحت سيطرة كابول، ويضم منطقة بها أغلبية من السكان الباشتون في جنوبي أفغانستان وشمال باكستان، يقسمها إلى جزأين: خط ديوراند، وهو خط الحدود الذي فرضه البريطانيون خلال الحكم الاستعماري للهند. وتحركت الحكومة الباكستانية بقيادة رئيس الوزراء ذي الفقار على بوتو، مؤسس حزب الشعب الباكستاني للتصدي لترويج داود لمطلب أفغانستان الكبرى، بمساندة تمرد متأسلم نشب في البلاد. وصرحت حكومة بوتو بتنفيذ برنامج سري للتدريب العسكري في قرب بيشاور في باكستان، حيث كانت مجموعات الخدمة الخاصة تحت إشراف جهاز المخابرات الباكستاني تقدم كميات صغيرة من الأسلحة والتدريب للأفغان. وفي يوليو 1975، أرسل جهاز المخابرات الباكستاني الأفغان العاملين معه إلى الجزء الشرقي من أفغانستان لشن موجه من الهجمات على مكاتب الحكومة والتحريض على تنظيم هبه، بيد أن هذا فشل؛ بسبب افتقاره لدعم واسع في أفغانستان.
وأصبح نظام داود مكروهاً وقمعياً بصورة متزايدة، حتى وقع انقلاب آخر موال للسوفيت في أبريل 1878، قاده محمد تراقي من حزب الشعب الديمقراطي الأفغانستاني، وهو الحزب السياسي الرئيسي الموالي للسوفيت، والذي كان قد وقع بعد توليه السلطة معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي. وخلال 1978، تفجر تمرد شعبي ضد النظام الجديد، حاولت فيه الأحزاب الإسلامية، التي وصفتها المخابرات الأمريكية بأنها "إخوان مسلمون" وساندها جهاز المخابرات الباكستاني، إثارة انتفاضة ثانية بالقيام بحملة من الإرهاب في أفغانستان، اغتالت فيها مئات من المديرين والموظفين المدنيين. وفي يوليو 1979 بدأ الرئيس كارتر، الذي أقلقته وثاقة ارتباط النظام الجديد بالسوفيت، يرسل معونة سرية لمعارضي النظام المتأسلمين، وكانت تلك ثالث محاولة لقوى فاعلة خارجية منذ 1975 لتنظيم انتفاضة على النظام في كابول. وتم الاضطلاع بالعملية في تعاون مع السعودية وباكستان، وكانت جزءاً من خطة لهيئة تشكلت فيما بين الحكومات أنشأها كارتر، وهي فريق عمل القوميات، لإثارة القلاقل بين الأقليات الاثنية في المنطقة. وتم إرسال المعونة السرية قبل الغزو السوفيتي بخمسة شهور، وقد قال زبجينو بريجنسكي، مستشار كارتر للأمن القومي فيما بعد، إنه أعرب لكارتر عن أمله في أن "تستدرج الولايات المتحدة تدخلاً عسكرياً سوفيتياً" سيفشل، ومن ثم "نهب للاتحاد السوفيتي حرب فيتنام الخاصة به".
وفي سبتمبر 1979، وبعد شهور من قتال وحشي بين فصيلين من حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني، جاء انقلاب آخر بحفيظ الله نائب رئيس الوزراء إلى السلطة، ساعياً للسيطرة على الحزب وكذلك لقتال مجاهدي حرب العصابات الذين تؤيدهم الولايات المتحدة. ومع تعرض نظام أمين الله لضغط العصيان، وخوف موسكو من عدم إذعان أمين بشكل كاف للإبقاء على حكومة موالية للسوفيت في كابول، وانهمرت دباباتهم وقواتهم على البلاد، وقتلوا أمين ونصبوا بابراك كارمال نائب رئيس الوزراء السابق رئيساً. بعد الغزو مباشرة، أرسل بريجنسكي مذكرة إلى كارتر تقول إنه "يجب علينا أن ننسق مع البلدان الإسلامية حملة دعاية وحملة عمل سري على حد سوا لمساعدة المتمردين".
ويبدو أن بريطانيا كانت قد بدأت هي الأخرى في تأييد المتمردين سراً قبل الغزو السوفيتي. ففي 17 ديسمبر 1979، عقد اجتماع "خاص للتنسيق" في البيت الأبيض رأسه والتر مونديل نائب الرئيس كارتر، وضم كل الوزارات الحكومية الأمريكية الأساسية. ومع احتشاد القوات السوفيتية قرب حدود أفغانستان، مهددة بالغزو لمساندة النظام الشيوعي، وافق الاجتماع على "تقصي إمكانية تحسين التمويل والتسليح للقوات المتمردة واتصالاتها مع الباكستانيين والبريطانيين، لجعل مواصلة السوفيت لجهودهم مكلفاً لأقصى حد ممكن". وهكذا، فقد بدأ البريطانيون حينذاك في القيام بما أصبح دورهم الأول تجاه الأمريكيين، وهو دور الشريك الأصغر في عمل سري تقوده الولايات المتحدة، وفي تناقض حاد مع الدور الأكثر اتساماً بالمساواة الذي كانت لندن تحظى به في الخمسينيات، وكان على بريطانيا أن تقوم بمهام متخصصة مثل تدريب المقاومة الأفغانية وإرسال عملاء سريين للمساعدة في القتال. وإجمالاً، كانت الخطة الأمريكية هي "تصوير السوفيت بأنهم أعداء للسيماء الدينية والقومية الإسلامية".
وفي يوم 18 ديسمبر، وهو اليوم التالي للاجتماع، ألقت مارجريت تاتشر رئيس الوزراء، والتي كان من المفترض أنها أبلغت حينذاك بالطلب الذي وجهه إليها اجتماع البيت الأبيض، خطابًا رئيسياً في رابطة السياسة الخارجية، وهي مؤسسة أمريكية للبحوث متعددة التخصصات في نيويورك، بعنوان "الغرب والعالم اليوم"، دافعت فيه بقوة عن الإسلام بديلاً للماركسية. وفي إشارة لأزمة الرهائن الإيرانية التي كانت قد بدأت قبل ذلك بشهر، قالت تاتشر: "لا أعتقد أنه يجب أن نحكم على الإسلام في ضوء الحوادث الجارية في إيران" واستطردت:
هناك موجة من الثقة بالنفس والوعي بالذات في العالم الإسلامي سبقت الثورة الإيرانية، وستتخطى في مداها تجاوزاتها الحالية. وينبغي أن يعترف الغرب بهذا باحترام وليس بعداء. إن الشرق الأوسط منطقة لنا فيها جميعاً مصالح كبيرة. ومن مصلحتنا، وكذلك من مصلحة شعوب تلك المنطقة، أن تنطلق من تقاليدها الدينية العميقة. إننا لا نريد أن نراها تخضع للدعوة الاحتيالية للماركسية المستوردة.
وكان استعداد تاتشر لكي تطرح جانباً استيلاء المتشددين الإيرانيين على السفارة البريطانية في طهران وتوسلها بالتناقض بين "تقاليد" الإسلام والماركسية  "المستوردة"، لافتاً للنظر بصورة صارخة. كان ذلك هو الخطاب الذي قالت فيه رداً على أولئك الذين يتهمونها مثلهم مثل السوفيت بأنها "السيدة الحديدية": "انهم على حق تماماً، إنني كذلك" – وهو القول الذي اقتبسته الأفلام الوثائقية في التليفزيون إلى ما لا نهاية. ومع ذلك فإن جزءاً أساسياً من دعوى تاتشر لصد ما أسمته "التهديد المباشر من جانب الاتحاد السوفيتي" كان انعكاساً لاعتماد بريطانيا التقليدي للغاية على القوى المتأسلمة في المنطقة.
وبعد الغزو بشهر، أبلغت تاتشر البرلمان بأن مصطلح "المتمردين" الذي تستخدمه الصحف "كلمة غريبة بالنسبة لي عن أناس يحاربون للدفاع عن بلدهم ضد غاز أجنبي. لا ريب أنهم محاربون حقيقيون في سبيل الحرية، يقاتلون لتحرير بلدهم من قاهر أجنبي". ووصفت أفغانستان بلغة تشير إلى الإسلام والمسلمين لافته للنظر، قائلة إنه "بلد إسلامي، عضو في حركة عدم الانحياز وبلد لا يمثل أي تهديد يمكن تصوره لمصالح [السوفيت] القطرية أو غيرها " وأن "الاتحاد السوفيتي قد دق إسفيناً في قلب العالم الإسلامي".
وفي زيارة لاحقة لمعسكر اللاجئين قرب حدود أفغانستان، أخبرت تاتشر المحيطين بها: "إنكم تتركون بلداً كافراً لأنكم رفضتم أن تعيشوا في ظل نظام شيوعي كافر يحاول تدمير دينكم"، وإن "أفئدة العالم الحر معكم". وأضافت: "إننا سنواصل، جنباً إلى جنب مع باكستان، والمؤتمر الإسلامي، وحركة عدم الانحياز، ومع الغالبية الشاسعة من بلدان العالم، العمل من أجل التوصل إلى حل". ومرة ثانية كان التوسل بالإسلام اللافت للنظر بصورة صارخة، يبين أن بريطانيا كانت مستعدة مرة أخرى للتوحيد صراحة بين مصالحها الجغرافية السياسية والنفطية وبين مصالح القوى الإسلامية تحديداً.
لقراءة الحلقة الأولي اضغط هنا
لقراءة الحلقة الثانية اضغط هنا 
لقراءة الحلقة الثالثة اضغط هنا 

شارك

موضوعات ذات صلة