صيحات التجديد الدينى ( 5 )

الخميس 18/سبتمبر/2014 - 09:43 م
طباعة
 
وكما تنبأ الإمام السيوطى فى شرح حديث الرسول " أن الله يبعث على رأس كل مائة من السنين لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها وقال ولا يشترط أن يأتى كل مائة سنة ولا أن يكون واحدا فإنه وبعد أقل من مائة سنة بكثير أتى مجددان معا الأفغانى ومحمد عبده ، وهما لم يتعددا فحسب بل تلازما وخاضا معركتهما معا من أجل رؤية تجديدية صافية وعقلانية للإسلام، لكن الأمر لم يكن سهلا ، بل شديد التعقيد ، فالتجديد الفكرى عامة يعنى عدم الاكتفاء بالبعد الحضارى للمجتمعات الإسلامية المغرقة فى ظلام العصور الوسطى وبالتالى التطلع إلى البعد الحضارى الناهض فى الغرب ، لكن الغرب تصادم مع شعوب هذه المنطقة بعنف استعمارى يخلو من أى تعامل متحضر، وشهد القرن التاسع عشر شهوة غريبة للسيطرة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية والسياسية ، كما أن هذه السيطرة تطلعت إلى هدم الإمبراطورية العثمانية التى هى فى نظر الكثيرين من المسلمين دار الخلافة الإسلامية ومقر أمير المؤمنين، وفوق هذا وذاك فإن الغرب أصبح بعد نهضته ممتلكا لقيم وأخلاقيات ومثل ومعارف وعلوم تتناقض أو تتباعد عن كل ما كان سائدا فى ديار المسلمين ، بل وتصطدم بعنف مع ما يعتقد المسلمون بأنه الإطار العقائدى المتوارث رغم ما به من تشويهات وإبتعاد عن صحيح الإسلام . [ د.أحمد عبد الرحيم مصطفى – حركة التجديد الاسلامى فى العالم العربى الحديث – ص 46 ] وعندما وقعت محاولات المواجهة تبدت رؤيتان الأولى يبثها بعض المستشرقين الاستعماريين أو حتى ممثلى الاستعمار المسيطرين على حكم وإدارة وتوجيه البلاد والتى تكاد أن تضع المسلم أمام خيار مستحيل ، إما الإسلام وإما التقدم ، وإذا كان هناك تخلف فهو سمة إسلامية، وكان أبرز من قال بذلك لورد كرومر المندوب السامى بمصر ومثله فى الهند . [ حليم اليازجى – الأيديولوجيا الإصلاحية ومظاهرها فى الفكر العربى الحديث – ص 103 ] أما الرؤية الثانية فكانت تقول إن الهزيمة الحضارية التى لحقت بالمسلمين كانت نتيجة رؤية وتفسيرات وفتاوى خاطئة ومرتبطة بالتمسك بقراءات إنطباعية فى كتب السلف ، وكانت للأسف تعتبر أن منتهى الإغراق فى الظلامية هو إغراق فى المزيد من الإيمان، وتبدى للعقلاء ومنهم الأفغانى ومحمد عبده إنه لا مفر من التعامل مع التراث القديم رؤية انتقادية ، رافضة لكل ما يجافى العقل وساعية حول قبول للمحتوى العقلى والفكرى للغرب ومحاولة التأويل لكل ما يخالف ذلك مع ربط كان بالنسبة لهم شديد الصعوبة وهو أن الحضارة الحديثة تعنى الغرب والارتباط بأحدهما يعنى بالضرورة الارتباط بالآخر [Zaki Badawi – TheReformers Of Egypt – London- p.12] 
وفيما كان البعض يعتبر أو حتى يبرر التخلف الحضارى بأنه غضب إلهى على المسلمين بسبب عدم تمسكهم بالدين أو بالدقة بالفهم الخاطئ للنص الدينى وتغليف الالتزام به برؤى خرافية وغير عقلانية ، وأن التململ إزاء هذه الخرافات والتهويمات غير العقلانية هو مجرد نقص فى الإيمان ، فإن البعض الآخر كان يرى أنه لا بديل عن القبول الكامل بمعطيات الحضارة الغربية ، مع وجود تفاوت فى هذا القبول ومجالاته بما لا يتصادم مع التعاليم الإسلامية الواضحة النص ، وبما يستلزم بالطبع قدرا ضروريا من تأويل النص لكى لا يتصادم مع العقل ومع واقع الحياة الذى يفرض نفسه .
[Nadav Safran – Egypt in search of politial community – Harvard – P.39]
وفى إطار هذا الوضع البالغ التعقيد ، ورؤية الرواد بضرورة النهوض الحضارى كان الأفغانى ومحمد عبده يحاولان جهدهما فى تقارب حذر مع معطيات الحضارة الغربية ، ومواجهة حذرة مع معطيات فى هذه الحضارة قد تتصادم مع رؤى أخلاقية واجتماعية لا يمكن الانحناء أمامها ، ومواجهة أخرى مع شيوخ أزهريين شديدى التشدد فى رفض كل ما يحمله الهواء القادم من الغرب من سموم معادية للدين .. وحتى بعد رحلة تجديدية مجيدة رحل محمد عبده بعد أن قال على فراش الموت
ولست أبالى أن يقال محمد أبّل أم اكتظت عليه المآتم
ولكنه دين أردت صلاحه ، أحاذر أن تقضى عليه العمائم.

شارك