استعادة ابن رشد و العقل السلفي واسوا جوانب الطائفية في مجلة " الكلمة "

الجمعة 12/أكتوبر/2018 - 09:08 ص
طباعة استعادة ابن رشد استعادة ابن رشد و العقل السلفي روبير الفارس
 

يبدو ان الدراسة القيمة التى قام بها الكاتب الشاب مدحت صفوت  لتفكيك فكر ابن رشد وانازله  من منصة التنويرين  ونزع هالة الحداثة عنه قد فتحت الشهية لكتابة ونشر  العديد من الدراسات والملفات حوله بمختلف المجلات الفكرية وهاهى  مجلة " الكلمة " الصادرة مؤخرا – عدد اكتوبر – تضع ابن رشد  تحت مشرط  يحلل ويناقش فكره في ملف كتبها وائل فاروق  وحمل عنوان "استعادة ابن رشد وتكريس العقل السلفي " حيث يصل الكاتب الي نتيجة مهمة فيقول  لم يكن ممكنا إذن لابن رشد أن يرى تناقضا بين الفلسفة والفقه لأنهما اجتمعا فيه، كان هو نفسه دليل الوحدة والاندماج العملي بينهما . لذلك يبدو موت ابن رشد نهاية مأساوية لهذه الوحدة العملية بينهما. فابن رشد لم يخلف لنا أي نص – وكذلك من كتبوا عنه قديما وحديثا- عن الممارسة العملية لذلك التوافق النظري بين الفقه والفلسفة
جثة الفيلسوف 
يبدا وائل دراسته  الثمينة  بما سجله "ابن عربي" – قطب التصوف الأكبر– في أهم كتب التصوف الإسلامي "الفتوحات المكية" عن لقائه - وهو بصحبة الفقيه الأندلسي "ابن جبير"- بابن رشد. إنه لقاء اجتمعت فيه عناصر الثقافة الإسلامية الثلاثة – العرفان/ التصوف والفقه/ الشريعة والبرهان/ الفلسفة– على مستوى القمة، لكن هذا اللقاء كان ذا طبيعة خاصة لأنه كان لقاءا مع جثة ابن رشد. كان ابن رشد قد دفن قبل هذا اللقاء بشهور في مراكش ثم تقرر دفنه في المدينة التي ولد بها –قرطبة- على سبيل التكريم، وربما أيضا الاعتذار، فقرطبة التي تستعيد الآن ابن رشد هي نفس المدينة التي طردته وأحرقت كتبه، لذلك قررت استرداده هو وكتبه، فوضعت جثتة في جانب، وعلى الجانب الآخر من –الدابة- توازنها كتبه. ولنستمع لابن عربي –شاهد العيان- يروي قصته «لما جعل التابوت الذي فيه جسده [ابن رشد] على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد ابن جبير، كاتب السيد أبي سعيد [الأمير]، وصاحبي أبو الحكم عمرو ابن السراج، الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى ما يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله، فقال ابن جبير يا ولدي نعم ما نظرت! لا فضّ فوك! فقيّدتها عندي موعظة وتذكرة».
أمام الموكب الجنائزي – لابن رشد وكتبه – يقف الجميع صامتين ولا يتكلم إلا الناسخ – الذي ليس من طبيعته الكلام فهو ناسخ عمله النقل والتقييد - فيقول: «هذا الأمام، وهذه أعماله» ربما لأنه كناسخ لا يعيش إلا مع الكتب أو في الكتب، تماما كابن رشد الذي "لم يدع النظر والقراءة منذ عقل، إلا ليلة وفاة أبيه وليلة زواجه"
لم ير الناسخ في خروج ابن رشد من"قبر" وتوجهه إلى "قبر" إلا "أعماله/ كتبه"، والفقيه الذي شارك قبلها بسنوات قليلة في اضطهاد ابن رشد يعلق على كلام "الناسخ" ويقول: "نعم ما نظرت" ولا يقول: نعم ما قلت. فما الذي رآه الناسخ ولم يروه؟! لقد كان خروج ابن رشد من القبر "قيامة" مبكرة وها هو يحاسب الآن، ها هو ذا في الميزان جسده في كفة وأعماله في الكفة الأخرى، ابن رشد إذن كان حيث وضعه دانتي في الكوميديا الإلهية في الأعراف، ينتقل من قبر إلى قبر، ويبقى جسده عالقا بكتبه في ميزان لا ترجح إحدى كفتيه .
اليوم ونحن محملون بما يزيد عن ثمانية قرون على خروج ابن رشد من قبره، كيف نرى هذا الخروج؟! يقول عبد الفتاح كليطو: إن" ترحيل جثمان ابن رشد، سيكون له، بالنسبة لنا نحن، مدلول دقيق هو رفض أرسطو وترحيل الفلسفة إلى اللاتينين"ويقول الجابري: إن ابن رشد مازال حيا، إنه تراثنا "والتراث هو الموتى الأحياء فينا لينتقل ابن رشد إلى قبر جديد، لكنه هذه المرة قبر من لحم ودم، فهذه الجملة تجعل منا قبورا وتحفظ لابن رشد كونه جثة؛ جثة حية فينا. "
استعادة  ابن رشد 
يكشف  فاروق  التاريخ الحديث عن استعادة " ابن رشد " .حيث  طُمست طروحات ابن رشد تحت ركام الالتباس وطبقات التاريخ السفلية ولم يُقرأ من قبل العقل الإسلامي إلا مع بداية القرن العشرين وبالتحديد عام 1903 عندما اصدر فرح انطون كتابه "ابن رشد وفلسفته"، كان فرح أنطون يبحث عن "أصل" في التراث الإسلامي للحداثة، يبحث عن فقيه يصدر فتواه بشرعية الحداثة، وكان هذا الفقيه هو ابن رشد الذي أصدر فتواه بشرعية النظر العقلي، وما النظر العقلي إلا جوهر الحداثة المرجوة، هكذا بدأت سلسلة من الاستعادات لابن رشد، كان آخرها في تسعينيات القرن الماضي، فقد عقدت له المؤتمرات، وكتبت المقالات في الصحف بل وانتج فيلم سينمائي ضخم لصاحب السعفة الذهبية لمهرجان كان: يوسف شاهين، وكان عنوان الفيلم بالغ الدلالة "المصير". كانت النخبة والأنظمة الحاكمة تخوض معركة التنوير ضد التيارات الدينية الظلامية وضد الإرهاب الذي تمارسه باسم الدين، كان على ابن رشد مرة أخرى أن يدافع عن التلاؤم بين التقليد الإسلامي والعقلانية أو الحداثة، وليرفع التناقض الموهوم بين العقل والنقل، بين الفلسفة والشريعة، بين التراث والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة.
 تعقيدات ابن رشد 
 ويستطرد  وائل  قائلا  لكن "ابن رشد الماضي" يزيد الأمور تعقيدا لـ "ابن رشد الحاضر"، فهل هو ابن رشد العربي المهمش في التراث الذي احتل مركزه الغزالي في اللاهوت والفلسفة والفقه والتصوف؟ أم هو " أفرَّؤيز" اللاتيني أحد ملهمي التنوير الأوروبي، ولا يتوقف الأمر عند ثنائيتي الزمان (الماضي/ الحاضر) والمكان (العرب/ الغرب) فهناك ثنائية معرفية أخرى أكثر أهمية هي ثنائية ( الفلسفة/ الشريعة) فهل كان ابن رشد فيلسوفا يخادع الفقهاء بمؤلفاته الدينية لأن أفكاره الحقيقية نجدها في شروحه لأرسطو، أم كان فقيها استفاد من الفلسفة في تجديد الفكر الديني؟ أم هو كما يرى نصر أبو زيد " امتدادا للتراث المهمش للعقلانية ، فرض عليه سعيه للخروج من الهامش تقديم تنازلات زادت من هامشيته"؟ 
ابن رشد "سيستمر في الشمال، في أوروبا حيث ستفرض الرشدية نفسها .. وستكون فلسفته أحد المصادر الأشد قوة للصدمة التي ستمنح الفاعلية، في باريس، وبادوفا، وأكسفورد، وإلى وسيط الحضارة الأوروبية هذا: الجامعة"  ولكن تجربة ابن رشد هناك في الشمال كانت مجرد هامش لتجربة المعلم الأول أرسطو لم يكن الاهتمام به مقصودا لذاته، كان مجرد وسيط ضمن استمرارية تجربة إنسانية حفظ ثمارها الفكرية، وليس أدل على ذلك من أن أغلب الباحثين الأوروبيين الذين درسوا ابن رشد لم يلتفتوا هم أيضا إلى حياته كقاض وكفقيه وكإنسان، إلا بما يؤكد ويشرح دوره كوسيط.  من إذن المسؤول عن هذا؟ يبدوا لي أن المسؤول الأول عن هذا هو ابن رشد نفسه، فهو أول من دفع بوجوده كإنسان إلى الهامش، فابن رشد "لم يخلّف أي نص في السيرة الذاتية أو ما يشبهها – على الأقل فيما بقى معروفا من نصوصه وباستثناء فقرتين أوردهما عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب" رواية عن تلميذ لابن رشد، يتحدث فيلسوفنا في إحداها عن لقائه الأول "بأمير المؤمنين"، وفي الأخرى عن اقتراح ابن طفيل عليه بطلب من هذا "الأمير" تلخيص كتب أرسطو، باستثناء هاتين الفقرتين اللتين ترويان على لسان ابن رشد، فإننا نكاد لا نعثر له على حديث عن شؤونه الشخصية، ماعدا عبارات سجلها قلمه، بين ثنايا هذا الكتاب أو ذاك، أشار في بعضها باقتضاب شديد إلى ما سبق أن فعل أو ما ينوي فعله في مجال البحث العلمي والكتابة والتأليف، أو إلى ما حرّكه إلى تأليف هذاالكتاب أوذاك وأخبر في بعضها الآخر عن تنقله بين قرطبة واشبيلية ومراكش مسجلا ملاحظات سريعة بعبارات مقتضبة جدا، أو معبرا عن إحساسه بالغبطة أو بالمرارة مما له علاقة بوضعيته كفيلسوف. وبالجملة فكل ما سجله ابن رشد بقلمه أو روى عنه، مما يتعلق بشأنه الشخصي،لا يخرج عن مجال مسيرته العلمية 
أما كتب التراجم التي ترجمت لابن رشد فهي لم تذكر إلا محطات مهمة في حياته  ويتسأل وائل  لماذا لم يهتم ابن رشد بكتابة سيرته الذاتية ولماذا لم يلتفت إلى ذلك أيّ من تلاميذه أو أبنائه؟ يبدو سلوك ابن رشد غريبا، لأنه يبدو كما لو كان خرقا للتقاليد، لقد حرص سابقوه ولاحقوه على تدوين أو إملاء سيرتهم الذاتية – كما أرادوها- فعل ذلك الغزالي وابن سينا من قبله وابن عربي وابن خلدون من بعده، موقف ابن رشد إذن ليس مجرد "تواضع ونكران للذات"  إنه موقف فكري وطريقة للنظر في الحياة، أو لنقل نمط متكرر لعلاقة العقل بالواقع في التراث الإسلامي. فأزمة العقل العربي لا ترجع فقط إلى الاضطهاد والتهميش الذي تعرّض له على مدار تاريخه،  وإنما ترجع- بالأساس- إلى طبيعة اختياره لموضوعه، ليست الأزمة كما يلح الباحثون في تراث الثقافة الإسلامية في غياب العقلانية، وإنما في انقطاع العلاقة بين العقل وموضوعه الحقيقي وهو الواقع الإنساني، أعني الحياة والممارسة الإنسانية التي نلحظ غيابها المخيف من التراث الفلسفي الإسلامي حيث نجد "لتاريخ الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية مظهران: مظهر سياسي إيديولوجي، ومظهر فكري نظري. فالحاجة إلى الفلسفة كالحاجة إلى محاربتها وتضييق الخناق على أهلها كانت تمليهما دوما اعتبارات سياسية مباشرة أو غير مباشرة." 
العودة للاصول 
كان شعار دولة الموحدين- التي كان ابن رشد نفسه أحد أعلامها- "ترك التقليد والعودة للأصول" هذا  الأساس الذي انطلق منه ابن رشد ودفع به نحو أكثر أطواره نضوجا فقهيا وفلسفيا، ذلك في الوقت الذي كان فيه غيره من الفلاسفة أسري "التباس مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة" كما يقول ابن خلدون. فمثلا "فخر الدين الرازي" (544 - 606 هـ) الذي كان معاصرا لابن رشد (520-595) كان يعيد تأسيس المذهب الأشعري باعتماد القياس الأرسطى، وتوظيف المفاهيم الفلسفية التي ابتدعها "ابن سينا"، في نفس الوقت الذي كان ابن رشد فيه يعيد بناء كل من الفلسفة والعقيدة القرآنية، بالعمل من جهة على تخليص الفلسفة من تأويلات "ابن سينا" والرجوع بها إلى الأصول، إلى أرسطو بالذات، والعمل من جهة أخرى على تخليص العقيدة الإسلامية من تأويلات المتكلمين، وفي مقدمتهم الأشاعرة، والرجوع بها إلى الأصول.
أما مؤلفات ابن رشد التي ألفها ابتداءا- أي لم تكن شرحا أو تلخيصا – نجد أنها، إلى جانب التزامها مبدأ "العودة إلى الأصول"، كان لها أصل سابق عليه، فمثلا كتابيه" الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" و"فصل المقال" ينطلقان من الرسالة التي ردّ فيها جدّه "ابن رشد الجدّ" على تكفير الأشاعرة، لمن ليس علي مذهبهم والتي يقول فيها: "فمن الحق الواجب على من ولّاه الله أمر المسلمين أن ينهى العامة والمبتدئين عن قراءة مذهب المتكلمين الأشعريين، ويمنعهم من ذلك غاية المنع، مخافة أن تنبو أفهامهم عن فهمها فيضلوا بقراءتها. ويأمرهم أن يقتصروا فيما يلزمهم اعتقاده على الاستدلال الذي نطق به القرآن."ولا يذهب ابن رشد بعيدا عن هذا عندما يقول: "وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلا عن الجمهور. ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات إلى من هو من غير أهلها وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرح به والمصرح له إلى الكفر!! فالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور، ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية".
ويقول وائل ولا أسعي هنا على الإطلاق إلى التشكيك في أصالة ابن رشد وإبداعه، إلا أنني أريد التأكيد على أن هذه الأصالة النظرية متجذّرة في السياق المعرفي الذي نشأ فيه ابن رشد، ولا شك أنه تأثّر به كما أثّر فيه، كما أريد أن أؤكد أيضا على أن ابن رشد "الفقيه" هو الأساس الذي انبنى عليه ابن رشد "الفيلسوف"، وليس أدل على ذلك من منهجه في معالجة العلاقة بين الشريعة والفلسفة، فهو "لم يدافع عن الفلسفة بالفلسفة، بل دافع عنها بالفقه، فالسياق العام الذي يتحرك فيه تفكير ابن رشد هو موقعه كفقيه بل كقاض، يتحدث من داخل الشريعة الإسلامية وبمعاييرها وأحكامها." لذلك نجد أن ابن رشد يتناول بالنظر الشرعي "فعل الفلسفة" وليس مقولات الفلسفة، فالتفلسف من حيث هو فعل يقع تحت طائلة الفقه بوصف الفقه "النظر في أفعال المكلفين" لذلك فابن رشد يدافع عن شرعية النظر العقلي، وليس عن نتائج هذا النظر. ابن رشد إذن "فقيه متفلسف" أو لنستخدم تعبيره "مجتهد" ، فالاجتهاد بالعودة إلى الأصول هو ما يرفع ابن رشد عن مرتبة الفقهاء الذين يقول عنهم "ولأن ها هنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء، فينبغي أن ننظر في أي الصنفين أولى أن نلحقهم؟ وهو ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون" وهم كذلك لأنهم "يصيرون أقاويل المجتهدين أصولا لاجتهادهم، وكفى بذلك بدعة وضلالا".مرتبة الاجتهاد إذن هي المرتبة التي لا تتناقض فيها الحكمة والشريعة "لأن الحكمة –الفلسفة- صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة." ولأن "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"أما إذا أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة، بموجود ما سكت عنه الشرع، فلا إشكال هناك "لأنه بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي".
نتيجة مهمة 
لم يكن ممكنا إذن لابن رشد أن يرى تناقضا بين الفلسفة والفقه لأنهما اجتمعا فيه، كان هو نفسه دليل الوحدة والاندماج العملي بينهما . لذلك يبدو موت ابن رشد نهاية مأساوية لهذه الوحدة العملية بينهما. فابن رشد لم يخلف لنا أي نص – وكذلك من كتبوا عنه قديما وحديثا- عن الممارسة العملية لذلك التوافق النظري بين الفقه والفلسفة، ولقد بحثت باستماتة عن أي فتوى عملية لابن رشد عن نص أي حكم فصل به بين متنازعين من لحم ودم أثناء الفترة الطويلة التي تولى فيها القضاء في قرطبة وأشبيلية، فلم أوفق في العثور على شيء، وقد أصابني هذا بإحباط كبير لأنى لم أجد إلا عبارات مقتضبة يعبر فيها عن ضيقه بهذا "الشغل". ألم يجد ابن رشد في قضايا الناس ما يستدعي "النظر"؟ ألم يتوقف أمام مآسيهم، وأدق تفاصيل حياتهم التي كانوا يعرضونها أمامه بوصفه "القاضي"؟ هل أثرت "عقلانية" ابن رشد على أحكامه؟ هل ضمنت الفلسفة تطبيقا أكثر عدالة للشريعة؟ كيف؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير لن تجد إجابة لأن القاضي ابن رشد اختار أن يهدر الواقع، لأن الواقع لم يكن جديرا بالنظر العقلي، والناس الذين يعيشون فيه ليسوا إلا "العامة" الذين يحرم إفشاء التأويل فيهم. لذلك لا ينعى ابن رشد على الفقهاء أنهم يصبون الواقع والحياة الإنسانية قسرا في قوالب النصوص، أو أنهم يجعلون النص أصلا والواقع الإنساني فرع عليه، لا يهتم ابن رشد بحياة الناس قدر اهتمامه بالنصوص/ الأصول، لتبقى العقلانية العربية من بعده – كما كانت من قبله- تعيش انفصالا مؤسفا بين العقل والواقع.
انفصال 
"الانفصال بين العقل والواقع" وهي السمة التي حاولت أن أحدد معالمها في تجربة ابن رشد في الصفحات السابقة هي أحد أهم الأسباب التي تجعلنا نقف متشككين بإزاء تجارب استعادة ابن رشد، ولنبدأ أولا بتجربة الاستعادة وآليتها التي تمثل في أحد أخطر سلبيات الثقافة العربية المعاصرة. فالمثقف العربي بشكل عام "أسير النماذج الأصلية والعصور الذهبية، يستوي في ذلك التراثيون والحداثيون، إذ الكل يفكرون بطريقة نموذجية أصولية. فالتراثيون، على اختلافهم، يفكرون باستعادة العهد النبوي أو عصر الراشدين أو العصر العباسي، أو هم يحاولون احتذاء عقلانية ابن رشد أو واقعية ابن خلدون أو قصدانية الشاطبي، والحداثيون، على تباينهم، يفكرون باستعادة عصر النهضة أو العصر الكلاسيكي أو عصر الأنوار، أو هم يحاولون احتذاء منهجية ديكارت أو ليبرالية فولتير أو عقلانية كانط أو تاريخوية هيجل أو مادية ماركس"وهو ما أدى إلى أن "مفاهيم الخطاب العربي الحديث والمعاصر لا تعكس الواقع العربي الراهن ولا تعبر عنه، بل هي مستعارة في الأغلب الأعم إما من الفكر الأوروبي حيث تدل هناك في أوروبا على واقع تحقق أو في طريق التحقق، وإما من الفكر العربي الإسلامي الوسيطي حيث كان لها مضمون واقعي خاص أو يعتقد أنها كانت كذلك بالفعل. وفي كلتا الحالتين فهي توظف من أجل التعبير عن واقع مأمول غير محدد، واقع معتم مُتَفَسِّخ إما من هذه الصورة أو من تلك الصور النموذجية القائمة في الوعي/ الذاكرة العربية. ومن هنا انقطاع العلاقة بين الفكر وموضوعه، الشيء الذي يجعل الخطاب المعبر عنه خطاب تضمين وليس خطاب مضمون".
وهكذا لا يكتسب الحاضر شرعية وجوده إلا بالعثور على أصل له في الماضي، فالماضي ومن يسكنونه من سلف هم أصحاب النفوذ المطلق على العقل العربي. وقد فطن إلى هذا ابن رشد فلم يشر إلى الفلاسفة اليونانيين إلا بكلمتين على مدار كتابه "فصل المقال"، وهما " القدماء" و"الأوائل"، حتى يتجنب الرفض والنفور التلقائي من كونهم سابقين على الإسلام أي "جاهليين"، أو كونهم ليسوا عربا "عجم"، وكلا الكلمتين يحمل معنى سلبي.
استعادة  تكرس غياب العقل النقدي 
تجربة الاستعادة ثانيا تكرس غياب العقل النقدي: فالاتصال الذي قرره ابن رشد بين الحكمة والشريعة ليس إلا فتوى دينية تحلل النظر العقلي الذي حرمته فتوى سابقة، على أساس أنه "تأمل المصنوعات للدلالة على الصانع".لذلك فنحن "معشر المسلمين نعلم على القطع أنه ﻻ يؤدى النظر البرهانى [:العقل] إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق ﻻ يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له". وأخطر ما يترتب على هذا أن العقل الأرسطى والنص الديني أصبحا مرجعيتين مطلقتين، وأن مقولة "الحق ﻻ يضاد الحق" أصبحت حقيقة قبلية معطاة سلفا. العقل عند ابن رشد إذن ﻻيعنى المنهج أو الإجراء (procedure) النقدى، فهو نظام مضمونى (substantive) كامل ومغلق. وإذا كان "الحق ﻻ يعارض الحق" عنده، فإن هذا يرجع بالضبط إلى أن كل ما يقوله أرسطو نستطيع "نحن الفلاسفة" أن نجده فى النص أيضاً حتى لو اضطررنا إلى تأويل النص. العقل الرشدى ﻻ يفعل شيئا بشكل أساسى إﻻ "التوفيق" بين أفكار ومفاهيم انتهى التفكير فيها ولم تعد قابلة للنقد. ولعل ابن رشد لا يبتعد كثيرا هكذا من حيث غاية النظر العقلي عن خصمه الأول الغزالي الذي يقول: "إنه العقل الذي يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه" ولا شك أن هذا العقل المعتزل، لا يمت بصلة إلى عقل التنوير الذي ينطلق من نقد مسلماته وبديهياته.
تجربة الاستعادة ثالثا تكرس نخبوية العقل: يصنف ابن رشد الناس في درجات متفاوتة، في قمة الهرم الفلاسفة/ أهل البرهان، ثم الفقهاء/ أهل الجدل، ثم العوام/ أهل الخطابة. ويسمح المضمون المركّب للنص الدينى بأن يدرك كل نوع من الناس على قدر ما تسمح به طبيعته. وبالتالى يجب أن يقْنَع عامة الشعب بالتأويل الخطابى والحرفى للنص الدينى؛ بينما يحتفظ الفلاسفة "بالحق" فى التأويل لاستخلاص المعنى الباطن للنص. فماذا يحدث لو تطاول واحد من عامة الشعب على هذا التقسيم وفقاً "للطبائع البشرية" وقرر تأويل النص؟ يجيب ابن رشد، مفكرنا التنويرى الكبير وقائد حداثتنا، أن هذا يؤدى إلى الكفر، وما يؤدى إلى الكفر فهو كفر، وبالتالى يجب على من ليس من أهل العلم أن يأخذ بظاهر النص، كما أن من يصرِّح من أهل العلم بتأويلاته الفلسفية للجمهور كافر، لأن فعله يؤدى إلى الكفر. وباختصار يجب أن يلتزم كل فرد "بالطبيعة" و"الاستعداد" الخاصين به وألا يتخطَى حدوده فى التأويل لأن هذا يسبب بلبلة وفتنة بين الجمهورواتساقا مع ذلك يرى ابن رشد ضرورة اتخاذ إجراءات لمنع وصول كتب التأويل الفلسفى إلى هذا الجمهور.
اذن لم يكن استدعاء ابن رشد اليوم وتقديمه كجذر/ أصل عربي إسلامي للحداثة يرجع لمحتوى أو مضمون أعماله، فالحداثة التي يعتبر الفرد أحد حقائقها ومرجعياتها لا يمكن أن تقبل بمقولة "لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير" التي تبناها ابن رشد. فالحداثة في غياب الحرية، وفي غياب العقل النقدي، ستتركنا معلقين – كابن رشد- بين التراجيديا والكوميديا.
ماذا جنينا من الطائفية ؟
ونشرت المجلة  مقالة مهمة  للمفكر الكويتى  عبد الله الجسمي  تحت عنوان ماذا جنينا من الطائفية؟ حيث وصل الكاتب الي ان الجانب الفكري هو أسوأ ما في الطائفية، فهو المسؤول عن الممارسات التي نراها من قبل الطائفيين تجاه بعضهم البعض، وتجاه غيرهم والثقافة الناتجة عنه. فالتعصب أهم ما يميز التفكير الطائفي، ويعني احتكار الحقيقة وحصرها في وجه واحد فقط، لا يقبل النقد أو التغيير. وهذا يقود إلى الجمود الفكري، وإلغاء دور العقل، وجعله أسيراً لمسلمات تفتقر للدليل والبرهان التجريبي وحتى العقلي. وقد نتج عن هذه العقلية إقصاء الآخر أياً كان، خصوصاً من يختلف في الطائفة، وغياب أي شكل من أشكال الحوار مع الآخرين وجاء  في مقاله 
ظهور الطائفية في أي مجتمع يعكس طابعاً من الثقافة السائدة فيه، فالثقافة هي الحاضنة لأي مظهر من مظاهر الفكر، أو طرق التفكير المختلفة، خصوصاً التي يسود فيها التعصب بمختلف ضروبه. كما أنها تمثل ظاهرة اجتماعية، أو انعكاساً لها، خصوصاً عندما تتشكل طريقة التفكير في المجتمع بعوامل اجتماعية بحتة، فبمجرد وجود الفرد ضمن فئة اجتماعية معينة، فإنها تكون مسؤولة عن تكوين طريقة تفكيره ونظرته للواقع والآخرين وعلاقته بهم.
والسؤال ماذا جنينا من الطائفية؟ يجب أن يطرح بشكل جدي على الشعوب والأفراد كي يتلمس الإنسان العربي ما فعلته الطائفية والطوائف في مجتمعاته. فهناك تجارب عاشها الكثيرون منا في العقود الأخيرة تمثلت بالعديد من الحروب والنزاعات الطائفية أو ذات الطابع الطائفي والتي لم تجن منها الشعوب سوى الدمار والخراب وإعاقة الاستقرار والتطور وتبديد الثروات وغيرها.
فالطائفية أداة لبث التفرقة بين أبناء المجتمع، وهي مسؤولة عن إحداث انقسامات بين شرائح اجتماعية، بناءً على الانتماء العقائدي للفرد. والإشكالية فيها أن المنطلقات العقائدية تأخذ طابعاً مقدساً لدى الأفراد، فالاختلافات الناتجة عنها تتحول إلى صراع عقائدي لا يمكن لطرف فيه قبول طرف آخر، ظناً منهم بأن كل طرف يمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي يشكل الآخر نقيضاً له.. ويترتب على تلك الاتهامات المختلفة التي نسمعها من بعض الأطراف التي يصل بها الأمر إلى درجة التكفير.
والصراعات الطائفية تحول الاهتمامات في المجتمع من القضايا الأساسية والمصيرية إلى قضايا هامشية لا تغني ولا تسمن من جوع، فهي ملهاة للكثيرين عما يجري في الواقع، وكأنها هروب منه ومن قضاياه. ولعل أسطع مثال ما جرى مؤخراً في المجتمع الكويتي، فقد تم إضاعة وقت البرلمان والحكومة والشعب والمجتمع ككل بقضايا مفتعلة لن تقدم أو تؤخر، وأخذت بوادرها السلبية بالانعكاس على المجتمع.
من جانب آخر، تأتي الصراعات الطائفية لتصرف الأنظار عن الواقع، بل والمستقبل والهروب منهما في التاريخ. فالطائفيون على مختلف مشاربهم، يقتاتون على الأحداث التاريخية كمادة لخطابهم والمليئة بالخلافات والصراعات، بل والحروب، حيث يصور كل طرف نفسه أنه على حق، ويضع تبريرات قطعية لذلك. والاتجاه نحو الماضي والانصراف عن الحاضر يقود أولاً إلى عدم الالتفات للواقع ومشكلاته، وثانياً يعيش هؤلاء في عالم آخر مختلف عن العالم الذي نعيشه، وكأن ما وصلت إليه الحضارة من تقدم معرفي، وما نتج عنها من ثقافة وطرق تفكير متطورة لا تعني لهؤلاء شيئاً!
ولعل الجانب الفكري هو أسوأ ما في الطائفية، فهو المسؤول عن الممارسات التي نراها من قبل الطائفيين تجاه بعضهم البعض، وتجاه غيرهم والثقافة الناتجة عنه. فالتعصب أهم ما يميز التفكير الطائفي، ويعني احتكار الحقيقة وحصرها في وجه واحد فقط، لا يقبل النقد أو التغيير. وهذا يقود إلى الجمود الفكري، وإلغاء دور العقل، وجعله أسيراً لمسلمات تفتقر للدليل والبرهان التجريبي وحتى العقلي. وقد نتج عن هذه العقلية إقصاء الآخر أياً كان، خصوصاً من يختلف في الطائفة، وغياب أي شكل من أشكال الحوار مع الآخرين، ولربما حتى بين بعضهم بعضا، وغياب مظاهر التسامح والاختلاف والتعايش مع من يختلفون معه في الطائفة أو العقيدة أو الفكر، وهذا ما يزعزع استقرار المجتمع. ولعل أسطع مثال على ذلك ما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت قرابة سبعة عشر عاماً، كان القتل فيها يتم على الهوية، ولم يعرف الفرقاء الاحتكام للعقل والحوار، بل كانت الأسلحة هي وسائل الحوار فيما بينهم. وهذا ينسحب أيضاً على ما كان يجري في العراق في الأعوام القليلة الماضية.
ثمة تساؤلات حول الطائفية مثل: ما الحل لهذا الموضوع؟ هل يتم الحل بالإقصاء أو القضاء على طائفة ما؟ فها هو لبنان بعد سنوات الحرب الأهلية العجاف يعود إلى تقسيمته الطائفية، وإلى رغبة الفرقاء في التعايش فيما بينهم بعد الصراع الدموي الذي لم يجن منه سوى الدمار؟ وهل نعي أيضاً ماذا فعلت الطائفية منذ أربعة عشر قرناً وحتى اليوم؟ وهل كانت الطائفية يوما أداة للتقدم وتطوير المجتمع أو ثقافته؟ ولِمَ لا نأخذ العبرة من الدروس التاريخية والحالية للصراعات الطائفية كي نجنب أنفسنا شرورها؟ وليسأل الطائفيون أنفسهم ماذا جنوا من وراء الطائفية سوى التشرذم والصراعات التي تنهكهم وتنهك مجتمعاتهم؟
الطائفية وهم محض، والطائفيون يعيشون في أوهام محضة، فالحقيقة ليست حكراً على أحد، واليقين بالتميز عن الآخرين لمجرد الانتماء إلى طائفة يقين خداع، لأن الانتماء الطائفي يتم بالوراثة لا بالعقل.

شارك