التأثير اليهودي والمسيحي علي الحركات الإسلامية

السبت 16/مارس/2019 - 02:33 م
طباعة التأثير اليهودي والمسيحي حسام الحداد
 
تشابهت اليهودية مع المسيحية مع الإسلام في البنيات الأساسية المنتجة للمتشددين الراغبين في إحياء أصول الدين، والعودة إلى السلف الصالح، لإقامة دولة العدل القوية، وهكذا كان الضعف والقلق وعدم الشعور بالرضا عما آلت إليه حال الديانة وأتباعها هو الدافع نحو ظهور التشدد، والرغبة في بعث السلف الصالح من مرقدهم عبر تمثل أقوالهم وأفعالهم وطرائق تعاملهم مع الحياة، لكن ذلك كله لا يقول بأن ثمة تأثيرًا واضحًا من اليهودية والمسيحية في حركات الإسلام السياسي، وإن كان ثمة تشابه في المقدمات والنتائج التي ظهرت مع أتباع كل ديانة.
كتاب"التأثير اليهودي والمسيحي علي الحركات الإسلامية" هو أحدث الدراسات العربية في الفكر الديني والحركات الإسلامية، للباحثة هدى الفيتوري عبد الرحمن فرحات، وأصدرته مؤسسة "أروقة" للدراسات والترجمة والنشر.
يعتمد الكتاب على المنهج التحليلي النقدي، مع الاستعانة بالمنهج التاريخي والمقارن، في مباحث الدراسة، وهو يبدأ بالتأسيس المعرفي لمفاهيم أصيلة في صلب الموضوع مثل: الدين، الأصولية، السلفية، الإصلاح الديني، ويستعرض العلاقة بين هذه المفاهيم من خلال تحديد البعد التاريخي وأسباب ظهور الحركات الإسلامية وعلاقة الحركة السلفية الإصلاحية بالأصولية الإسلامية، وعلاقة الوهابية بالسلفية الجهادية بالمغرب، في محاولة لرسم الخريطة الدينية والمشهد التنظيمي الإسلامي في الوطن العربي.
ويتطرق الكتاب إلى تأثير الفكر الديني اليهودي والمسيحي على نماذج ممثلة من الحركات الإسلامية في مصر والمغرب، من حيث استعراض الحاكمية في الفكر اليهودي والمسيحي، والإلهية والجاهلية وبوتقة التكفير وإيديولوجية الصفوة الإلهية عند سيد قطب، وتوظيف الدين في السياسة، وانتقال حركة الإخوان من حركة دينية إلى حزب سياسي، وثنائية الفكر والواقع عند الإخوان، والسلفية في المغرب، والسلفية كإيديولوجيا، من حيث تصلب المبدأ والنصوصية، والسلفية الأرثوذكسية الدينية، وعلاقة الحركة السلفية بالسياسة، من حيث الامتثالية كمبدأ سياسي، والتوجه الحزبي السياسي للسلفية الجهادية في المغرب.
ومن الزاوية السياسية يعقد المبحث الأخير مقارنة بين الحركات الإسلامية، والحركات الإصلاحية في أوروبا، فيبرز تشابهًا كبيرًا في استنتاجات مسائل الفكر الديني؛ إذ يتجلى أن أتباع هذه الأديان يؤمنون جميعهم بأمرين: الاصطفائية والحقيقة المطلقة، وتختلط الاصطفائية وتملك الحقيقة في وثائق حركة الإخوان والسلفية، ويمثل ذلك المحور الرئيسى الذي يدور عليه ذلك الفكر، وهنا يتضح أن جماعة الإخوان والسلفية، شأنهما في ذلك شأن أية هيئة سياسية ذات تمحور ديني في الفكر الديني اليهودي والمسيحي، تعتقد بالربانية.
استعرض الباحثان تاريخ الحركات الإسلامية السياسية، مؤكدين أن التاريخ الإسلامي مليء بالعديد من الحركات السياسية التي قامت على أسس دينية، في مقدمتها حركات القرامطة والشيعة والخوارج في العصور الوسطى، وفي العصور الحديثة ظهرت الوهابية في الجزيرة العربية، والسنوسية في شمال إفريقيا، والمهدية في السودان، والدهلوية في الهند، لكن هذه الحركات لم تكن الأساس الذي قام عليه كتاب الفيتوري وفرحات، فقد كان التعانق بين جماعة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية أساس ظهور جماعات الخروج المتوالية في العصر الحديث، بداية من الجهاد والتكفير والهجرة وصولًا إلى القاعدة وداعش وجيش النصرة، فقد كانت أفكار حسن البنا وسيد قطب الركيزة التي انطلقت منها هذه الجماعات التكفيرية في سبعينيات القرن الماضي، وما زالت تؤتي أكلها حتى الآن في الجسد العربي الذي تحلل من كثرة الخروق فيه.
قسم الباحثان كتابيهما ثلاثة فصول: درسا في الفصل الأول ما سمياه مفاهيم الدراسة؛ إذ توقفا أمام مصطلحات «الدين» و«الأصولية» و«السلفية» و«الإصلاح»، مقارنين بينها من المنظورين العربي والغربي، ففي الوقت الذي تعارف فيه الغرب أن كلمة أصولية تعود إلى المتمسكين بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، سواء لدى البروتستانت أو الكاثوليك، وهو المفهوم الذي تحول إلى مذهب باسم الأصولية المسيحية في بداية القرن العشرين، وأخذ على عاتقه معاداة المجتمعات العلمانية، فإن المنظور العربي لا يكاد يوجد في معاجمه اللغوية مقابل واضح لكلمة أصولية، وكل ما هنالك هو كلمة «أصل»، وقد اختلف العلماء في تفسير المصطلح؛ إذ ربط بعضهم دلالته بالبنية الثقافية التي تستخدمه كما فعلت رابعة جلبي، لكنهم في العموم ربطوه بالفضاء الديني وقصروه على الجماعات الأكثر تشددًا.
أما مصطلح السلف فقد قصروه على القرون الثلاثة الأولى من عمر الحضارة الإسلامية، ومنه جاء مصطلح السلفية التي عرفها محمد عبده بأنها (فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى منابعها الأولى)، ومن ثم فكل ما يعود إلى هذه القرون هو من قبيل السلف، لكن هذا المصطلح لم تظهر بوادره إلا في القرن الرابع الهجري؛ إذ ظهر من يغلبون ظاهر النص على التأويل والقياس والرأي، وكان أولهم الإمام أحمد بن حنبل الذي يُعَد حجر الأساس فيما عرف بالسلفية النصوصية، تلك التي تطورت مع ابن تيمية إلى السلفية العقلانية، ثم جاءت السلفية النجدية على يد محمد بن عبدالوهاب، التي رفضت البدع والخرافات التي طرأت على الإسلام، لكن بداوة البيئة الحاضنة لها خلقت نوعًا من الحذر الشديد من المدنية ومفرداتها.
في الفصل الثاني رصد الباحثان تطور فكر الإسلام السياسي وجماعاته، بداية من جمال الدين الأفغاني الذي سعى إلى إنجاز عمل سياسي عبر الإصلاح الديني، وقد تأثر به مفكرون كثر في مقدمتهم تلميذه محمد عبده الذي جمع بين عباءة الأزهر من جانب وعباءة الفكر الأوربي الذي عايشه مع أستاذه الأفغاني، فقدّم رؤية خرج منها من أراد التقدم على أساس الشك والتنوير الغربي؛ أمثال طه حسين وعلي عبدالرازق وعباس محمود العقاد وغيرهم، كما خرج أيضًا المتشددون الذين رأوا في منهج السلف طريقهم القويم، في مقدمتهم الشيخ رشيد رضا الذي فتن به حسن البنا، فظهرت على يديه جماعة الإخوان المسلمين في ظل سقوط الخلافة في تركيا، فغازل البنا الملك فؤاد ومن بعده ابنه فاروق الأول بأن يكون خليفة المسلمين، لكن ثورة يوليو التي قامت على أكتاف الشيوعيين والإسلاميين معًا سرعان ما انقلبت على الجميع، فدخل الإخوان السجون وكتب سيد قطب كتابة «معالم في الطريق» الذي استقاه من أفكار أبي الأعلى المودودي في باكستان، هذا الكتاب الذي آمن بأفكاره الكثيرون، فظهرت في مصر جماعات الجهاد والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والفنية العسكرية وغيرها من الجماعات التي رأت في السبعينيات ضرورة الخروج المسلّح على المجتمع، وانتهى الأمر بظهور جماعة القاعدة في الثمانينيات، ثم وصول الإخوان إلى الحكم في مصر عقب ثورة 25 يناير، لكنهم سرعان ما فقدوه لأخطاء عديدة في التجربة وعدم التماسّ مع أرض الواقع.
في الفصل الثالث سعى المؤلفان إلى إيجاد تماسات بين الديانات الثلاث وأتباعها فيما يخص العمل السياسي القائم على أساس ديني، وكانت الصهيونية اليهودية أبرز هذه الحركات، فقد نشأت في البدء كحركة علمانية تسعى إلى إقامة وطن لليهود، وهو الأمر الذي يناقض المعتقد اليهودي بأن الشتات سيستمر إلى أن يظهر المسيح اليهودي ويطهر الأرض ويقيم العدل ويحكم ألف عام قبل أن تأتي القيامة، لكن أقطاب الصهيونية وقادتها استطاعوا ترويض معارضيهم من الحاخامات والمفكرين اليهود المرتبطين بما جاء في التوراة والتلمود، وساعدت الهولوكوست الصهاينة في التفوق على خصومهم الذين أضعفتهم المحرقة، فتحول المعارضون إلى موالين متشددين، ثم إلى حركات متشددة داخل الإطار الصهيوني، هكذا قامت الدولة الصهيونية، وهكذا تحول الجدل بين العلمانيين والدينيين إلى إقامة دولة تمزج ما بين العلمانية والدين المتشدد في إطار واحد.
لم يكن الغرب ببعيد من الفكرة السلفية والأصولية، فقد نشأت البروتستانتية على أساس العودة إلى النص الإنجيلي فقط، ولا حاجة إلى تفسيرات وتأويلات البابوات والكهنة، وانتصر البروتستانت نظرًا لرغبة الأمراء والملوك في تقليص سلطات الكنيسة الكاثوليكية، لكن البروتستانت الثوريين تحولت رؤاهم فيما بعد إلى تكلس حرفي في شرح النصوص والتعامل معها، وسرعان ما ظهرت جماعات أصولية تدعو إلى التمسك الحرفي بالنص، وكان الطرح المشترك لدى المتشددين في الديانات الثلاث هو الإيمان بأنهم خير أمة، وأن فكرتهم هي الفكرة الجامعة المانعة، وأنهم نهاية التاريخ أو الديانات، وأن ما سيأتي هو المهدي أو المسيح الذي سينتصر على الظلم ويقيم العدل، وأن النص ليس بحاجة إلى تأويل أو قياس.

شارك