صيحات التجديد الديني ( 6 )

الأحد 16/نوفمبر/2014 - 10:17 م
طباعة
 
"وكان الكثيرون في زمان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده صامدين في رحاب التخلف والضعف، باعتبار أن ذلك غضب إلهي لا يلبث أن ينقشع بمزيد من العبادة، ذلك أن هذا التخلف لا يتسق مع الوعد الإلهي القاطع بالنصر والغلبة للمسلمين، فلا يمكن لسبحانه تعالى أن يتخلّى عن هذا الوعد"، [ جمال الدين الأفغاني – خاطرات الأفغاني - أملاه علي محمد باشا المخزومي - الآثار الكاملة – سيد هادي خسور شاهي – مجلد 6 صـ24 ]، وهنا تصدّى الأفغاني وعبده لهذه الفكرة رافضين القبول بمبدأ الرضوخ للتخلف مع مزيد من العبادة، وأيضاً لفكرة أن هذا التخلف مرتبط بالبنية الإسلامية، فأكدا "أن مأساة الإسلام المعاصر هي بكل بساطة المسلمون أنفسهم، لأنهم قد دخلت قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم"، [ محمد عبده - الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية – صـ30 ]، "وأنهم قد ابتعدوا عن الله فابتعدت عنهم الأمجاد، فالوعد الإلهي لم يخذل المسلمين بل هم الذين خذلوه"، [ العروة الوثقى – المجلد الأول – صـ159 ]، وأكدا أيضاً أن السبب في تخلف المسلمين هو "البدع"، أي تلك الشوائب التي ألصقت بالدين وتراكمت على مر السنين، وما هي من الإسلام في شىء، فانحرفت بالمسلمين عن المسار الصحيح، مثل الخرافات والكرامات وتقديس الأولياء وتصديق كل ما ورد عنهم من مزاعم والتبرك بقبورهم وأضرحتهم"، [ محمد عبده – الأعمال الكاملة - التصوف والصوفية – تحقيق محمد عمارة – صـ551 ]، وقد حاربا - الأفغاني وعبده - هذا "الانحطاط" الفكري وهماً يرددان عشرات المرات في كتاباتهم "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وهكذا فإذا كان انصراف المسلمين عن أصل الدين إلى الخرافات والبدع هو سبب الداء، فالشفاء منه هو العودة إلى أصل الدين، ومن ثمّ فلا بدّ "من تنقية العقيدة مما لحقها من البدع ومن انحرافات الفقهاء المتأخرين، التي خلقت حجاباً بين الأمة وبين الدين الحق"، [ محمد عبده – الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ]، وهنا يبدأ التجديد الحقيقي عبر التأكيد على جوهر الحل، وهو "العقل"، وهنا طرحت قضية سلطة العقل نفسها في النظر والتعامل مع النص الديني، فقال الأفغاني: "إن الدين يجلّ عن مخالفة العقل والعلم، فإن وقعت المخالفة وجب التأويل [ الخاطرات ]، وقال محمد عبده إنه لا قيد على العقل سوى القرآن والسنة الصحيحة، وحتى مع هذين المصدرين فهناك التأويل للآيات القرآنية، أما السنة فتحتاج إلى فحص دقيق لتبيان ما هو صحيح وقطعي الثبوت منها [ محمد عبده – الأعمال الكاملة – رسالة التوحيد – الجزء الثالث – صـ496 ]، ومع هذه المنظومة الفكرية للتجديد كان اللجوء إلى الغرب محاذراً، فالغرب هو ذات الاستعمار القاهر الباطش بالمسلمين، ومن هنا كان اللجوء إلى تقليد نمط الحضارة الغربية في ظل هذا الضعف، مؤدِّياً بالضرورة إلى "الاستكانة للغرب ولحكمه وسلطانه".
[Contwell . Smith – Islam in modern history – p99]
ويثير ذلك كله مسألة "الوطن"، وعلاقة ذلك بالخلافة العثمانية وبما أسماه الأفغاني "الجامعة الإسلامية "pan Islamism"، وهنا يرتبك فكر الأفغاني ارتباكاً شديداً، فهو يؤيد استقلال مصر عن النفوذ الغربي عبر إذكاء روح الوطنية، لكنه كان - في الوقت نفسه - يرى هذا الاستقلال في إطار الخضوع للرابطة الدينية، ففي غمار دعوته المصريين وغيرهم من الشعوب الإسلامية إلى التمرد والاستقلال عن النفوذ الاستعماري الغربي، كانت "الجامعة الإسلامية" تحلق في مخيلته كمخرج وحيد لتوحيد المسلمين في مواجهة الغرب الاستعماري، وأحياناً في مواجهة الاستبداد العثماني، [ نصر الدين عبد الحميد نصر – مصر وحركة الجامعة الإسلامية 1882 – 1914- صـ39 ]، وفي هذا السياق كان محمد عبده يتجه نحو تحرير عقول المسلمين ممّا يدفعهم نحو التخلف والانحطاط، بينما استكان للاحتلال البريطاني بعض الشيء.

شارك