الاعتراف الروسي بـ"طالبان".. هل يفتح الباب أمام شرعنة دولية؟

القرار الروسي لم يكن مفاجئًا في سياقه
العام، لكنه جاء محمّلًا بدلالات سياسية واستراتيجية عميقة، سواء على مستوى
العلاقات الثنائية أو في ضوء التطورات الجيوسياسية في آسيا الوسطى. فمنذ سيطرة
طالبان على البلاد، اختارت موسكو الحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة مع الحركة، بل
استضافت وفودًا منها في مؤتمرات إقليمية. والآن، بعد الاعتراف الرسمي، يبدو أن
الكرملين انتقل من سياسة "الانخراط الحذر" إلى سياسة "الاحتضان
المشروط"، مع التركيز على ملفات الطاقة والنقل والزراعة ومكافحة الإرهاب وتهريب
المخدرات، كما ورد في بيان الخارجية الروسية.
دوافع الاعتراف
رغم أن الخطوة الروسية قد تبدو
استفزازية للغرب، خصوصًا في ظل القطيعة المتزايدة بين موسكو والعواصم الغربية،
فإنها تعكس في جوهرها براجماتية روسية تهدف إلى ملء الفراغ الدبلوماسي الذي تركته
الولايات المتحدة في أفغانستان. فروسيا، التي لطالما تخوّفت من تصاعد النشاط
الإرهابي على حدودها الجنوبية، ترى في تقنين العلاقة مع طالبان فرصة لضبط المشهد
الأمني في جوارها الحيوي. ومن هنا، يبدو أن الاعتراف لم يكن مكافأة لطالبان بقدر ما
هو أداة روسية لتطويق الفوضى المحتملة في
منطقة لا تزال تعاني من تداعيات الانسحاب الأميركي.
يضاف إلى ذلك أن موسكو تدرك تمامًا أن
تجاهل طالبان أو عزلها لم يسفر عن نتائج تُذكر خلال السنوات الماضية، وأن التعامل
الواقعي مع سلطة الأمر الواقع قد يفتح الباب أمام مشاريع اقتصادية تعزز من النفوذ
الروسي في جنوب آسيا. كما أن الاعتراف قد يُنظر إليه كرسالة سياسية موجهة إلى
الصين وإيران وتركيا، مفادها أن روسيا لا تزال قادرة على التحرك في الملفات
الإقليمية الحساسة، وعلى صناعة المبادرات بدل الاكتفاء بردّات الفعل.
لكن المحفز الأهم قد يكون في الداخل
الروسي نفسه؛ إذ تواجه موسكو تحديات اقتصادية وضغوطًا من العقوبات الغربية، وتسعى
لتنويع علاقاتها التجارية في مناطق أقل حساسية. ويُنظر إلى أفغانستان كممر محتمل
لمشاريع الطاقة والنقل العابر، خاصة في حال استقرار الوضع الأمني، وهو ما قد تراه
روسيا مشروطًا بتثبيت العلاقة مع السلطة القائمة.
الاعتراف الروسي والشرعنة دولية
رغم ما تحمله الخطوة من رمزية دولية،
فإنها لا تعني بالضرورة أن موجة من الاعترافات ستتوالى، فقد واجه القرار الروسي
انتقادات من المعارضة الأفغانية، وعلى رأسها "الجبهة الوطنية للمقاومة"،
التي وصفته بأنه "تشجيع للجماعات الإرهابية" و"تطبيع للاقتصاد
الإجرامي". كما أن القوى الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد
الأوروبي، لا تزال تربط الاعتراف الرسمي بتحقيق تقدم حقيقي في ملف حقوق الإنسان،
وخاصة حقوق المرأة والتعليم، وهي ملفات لا تزال طالبان تُتهم فيها بتراجع كبير عن
الالتزامات الدولية.
ومع ذلك، فإن اعتراف روسيا يضع المجتمع
الدولي أمام معادلة جديدة: هل استمرار تجاهل طالبان يخدم الاستقرار أم يعمّق
العزلة؟ وهل بالإمكان الدفع نحو تعديل سلوك الحركة من خلال إشراكها دوليًا بدلًا
من استبعادها؟ في هذا السياق، قد تجد بعض الدول مثل الصين وتركيا وإيران في الخطوة
الروسية مدخلًا للتفكير في خيارات مماثلة، خصوصًا تلك التي تربطها مصالح مباشرة مع
أفغانستان.
لكن يبقى أن الاعتراف الروسي، على أهميته،
لا يعادل مقعدًا في الأمم المتحدة، ولا يغيّر من الوضع القانوني لطالبان على
الساحة الدولية، ما لم يُستتبع بإجراءات ملموسة من جانب الحركة تظهر استعدادها
للتعامل بمسؤولية دولية. وهنا تكمن المعضلة: فالمجتمع الدولي يطالب بتغييرات
داخلية، في حين تراهن طالبان على اعترافات تدريجية تُكسبها الشرعية دون تقديم
تنازلات تُذكر.
ويبدو أن قرار موسكو لم يكن مغامرة سياسية بقدر ما هو رهان محسوب على
واقع جديد فرضته المتغيرات الإقليمية والدولية، ويبقى الرهان على قدرة طالبان على التحول من
حركة ثورية إلى حكومة مسؤولة، وعلى مدى استعداد المجتمع الدولي لتجاوز عقدة طالبان
والانخراط معها بواقعية جديدة.