أشرف البولاقي وتفكيك الخطاب الأشعري بين نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك

السبت 22/أبريل/2017 - 07:16 م
طباعة أشرف البولاقي وتفكيك
 
ضمن اطار فعاليات مؤسسة نصر حامد أبو زيد للدراسات الإسلامية عقدت يوم الخميس الماضي 20 أبريل 2017 ورشة بحثية بعنوان "تفكيك الخطاب الأشعري بين نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك" قدم الباحث أشرف البولاقي ورقة بنفس العنوان ناقش فيها كتاب الدكتور نصر حامد أبو زيد " الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" وكذلك كتاب الدكتور علي مبروك " ما وراء تأسيس الأصول "مساهمة في نزع أقنعة التقديس" في مقاربة من الباحث لما قدمه المفكرين من مساهمة علمية لتفكيك الخطاب الأشعري ونزعة قداسة النصوص" حيث يقول الباحث: احتل محمد بن إدريس الشافعي (150 – 204 هـ) مكانة ومنزلة في الثقافة العربية والإسلامية، تكاد بقليلٍ من التأمل والقراءة تأتي بعد مكانة جده النبي محمد بن عبد الله، كيف لا والمرويات التي تروَى في فضلِه وعلمِه ومكانته تدنيه من ذلك؟! فقد نسَبوا إلى نبي الإسلام نبوءة عن الشافعي بأنه "عالِم قريش يملأ الأرض عِلمًا". بل إن ابن حجر العسقلاني يذكر في كتابه "توالي التأسيس بمعاني ابن إدريس" أن رجُلا رأى ليلة مات الشافعي قائلا يقول: الليلة مات النبي صلى الله عليه وسلم"!! وفي كتاب "مناقب الإمام الشافعي" لفخر الدين الرازي أن "مَن تعرض لمنازعته (يقصد الشافعي) فقد جعل نفسه هدفًا لعذاب الله تعالى"!! وغير ذلك كثير مما هو مبثوث في بطون الكتب التي تناولت الإمامَ وسيرته وفقهه.
والسؤال - الذي سيحيلنا لمناقشة كتابَي د. نصر حامد أبو زيد (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية) و (ما وراء تأسيس الأصول) د. علي مبروك – هو مِن أين استقى الشافعي هذه المكانة وتلك المنزلة؟ ولا يمكن أن يتم اختزال الإجابة في أنه كان عالِمًا أو فقيهًا فذًا أو عبقريًا فقط (هكذا)! فلا بدَّ من أسباب أخرى تضاف إلى علمه ونبوغه وعبقريته، وهي في أغلبها أسباب ومعطيات تتصل بالواقع الموضوعي الذي كان يعيش بين ظهرانيه الإمام الشافعي من ناحية، وبما امتلكه هو من وعي حاد بالسياقات والمستويات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي شارك فيها بكتبه وعلمه وآرائه .. ولعل بعضًا من تلك الأسباب تظهر دالةً ومشيرة في عنوانَي الكتابين المشار إليهما، فليس ثمة ملمح أو خصيصة ذاعت وانتشرت عن الإسلام حتى أصبحت علامة عليه مثل (الوسطية) تلك المنسوب تأسيسها للشافعي، والتي اتخذها د. نصر حامد أبو زيد عنوانًا لكتابه. كما لا يمكن الحديث عن نشأة علم أصول الفقه إلا باستدعاء الشافعي المنظِّر الأول والمعلّم الأول الذي يستدعي إلى الذهن المعلّمَ الأكبر في الثقافة اليونانية (أرسطو) بتأسيسه علم المنطق، وهو ما فطن إليه الرازي أيضًا في مناقب الشافعي فأشار إليه، وما يعنينا الآن أن تأسيس الأصول جاء عنوانًا أيضًا لكتاب د. علي مبروك. مما يعني التفاتَ الباحثيْن معًا - على اختلاف منهجيهما وأدواتهما ورؤيتهما – لأهم ركيزتين من ركائز الفكر عند الشافعي.
ورغم أن الباحثيْن تناولا مشروع الشافعي الفقهي وعلاقته بالسياقات التاريخية والثقافية والسياسية والدينية، إلا أن منهجيهما كان مختلفيْن كما سبقت الإشارة، فبينما انطلق د. نصر من الوسطية مناقشًا اعتبارها حاكمًا أبديًا على الثقافة والفكر والتاريخ، انطلق د. مبروك من القداسة التي كانت وما تزال ملمحًا من ملامح الثقافة العربية قبل الإسلام والتي كان طبيعيًا أن تتسلل وتسربِل شخصية وفكر وفقه الشافعي بأسره، مع اشتباكات تلك القداسة مع الديني والقَبَلي والسياسي ... ونجح الباحثان في تسليط أدواتهما في تحليل الأفكار وتحرير المفاهيم على مصادر التشريع الأربعة عند الشافعي لينكشف المضمر والمسكوت في الخطاب الشافعي كله.
أولا كتاب (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية):
نبدأ بالدكتور نصر حامد أبو زيد وانطلاقه  من "الوسطية" التي اعتبرها الكثيرون من أهم إن لم تكن أهم خصائص التجربة العربية الإسلامية، وهي الوسطية التي تم تأسيسها على يد الشافعي في مجال الفقه والشريعة، وترجع أهمية انطلاقه من أن هناك قطاعًا عريضًا من العرب والمسلمين يعتبرون تلك الخصيصة حاكمًا أبديًا ومستمرًا على الثقافة والتاريخ والواقع، دون أن يلتفتوا إلى أن هناك أسبابًا تاريخية اجتماعية وسياسية واقتصادية هي التي دفعت بها لموقع السيادة والسيطرة ... ومن ثَم انطلق يراجع تلك الخصيصة في بُعدِها الأيديولوجي وسياقاتها التاريخية والاجتماعية ليعرّيها من ثياب القداسة التي تلبستها، واعتمد في ذلك على منهج تحليل الأفكار والكشف عن دلالاتها، منتقلا منها إلى مغزاها الاجتماعي السياسي الأيديولوجي منطلِقًا من الفكر أولا إلى الواقع ثانيًا، مركِّزًا على فقه الشافعي وعلاقاته بالصراع الفكري الذي كان دائرًا بين أهل الرأي وأهل الحديث من جهة، وبين المعتزلة وخصومهم من جهة ثانية، وبين العرب والفُرس من جهة أخرى .. فضلا عن أشكال الصراع الاجتماعي السياسي الاقتصادي العام حول التأويل في ذلك العصر.
وقد لاحظ د. نصر أن أصول الفقه عند الشافعي تنطلق من أربعة مصادر، هي الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، مؤكدًا على أن الترتيب مقصود ومحدد سَلَفًا في فكر الشافعي الذي راح يؤسس اللاحقَ منها على سابقِه، فالسنّة تتأسس مشروعيتها - بوصفها مصدرًا ثانيًا للتشريع - على الكِتاب، ويتم دمج السنّة والكتاب باعتبارهما بناءً عضويًا واحدًا يتم تأسيس الإجماع عليه، ويأتي القياس أو الاجتهاد ليصبح استنباطًا من البناء العضوي الثلاثي السابق عليه.
في المصدر الأول وهو الكتاب، كان طبيعيًا أن يبدأ الأمر باللغة العربية، التي يراها الشافعي متسعة لا يحيط بها إلا نبي، ثم عقَدَ مقارنة بين العلم باللغة والعلم بالسنن ليصبح العلم بالسُّنة مفتاحًا للعلم باللغة، ومن ثم العلم بالقرآن لتكتسب السنة بهذه الطريقة مشروعيتها، وتبدأ الوسطية عند الشافعي في محاولته التلفيقية باعتبار الدخيل أو الأعجمي في القرآن هو مِن الألفاظ التي تتفق فيها لغات وألسنة مختلفة دون أن تكون انتقلت من لسان أمة إلى لسان أمة أخرى، وهو توسط مزعوم بين طرفيْن متناقضين يرى أحدهما وجودَ ما كان أعجميًا في القرآن، بينما ينكِر الآخر ذلك تمامًا باعتبار أنه نزل بلسان عربي مبين .. ودفاع الشافعي عن نقاء اللغة العربية وخلوِّها التام من الأعجمي هو دفاع عن عربية قريش، بل عن وسطية قريش التي كانت لهجتها أوسط اللهجات العربية ومِن ثم تم تثبيتها لهجةً للقرآن في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وما دامت قريش أوسطَ العرب نسبًا ودارًا فما يمنع مِن أن تكون لغتها كذلك؟!
اشتراطُ الشافعي قراءة الفاتحة باللغة العربية شرطًا لصحة الصلاة بعيد تمامًا عن الوسطية، لكنه يُفهَم تمامًا في إطار الصراع مع فكر وفقه أبي حنيفة وهو مِن أهل الرأي وذو أصلٍ فارسي.
أمّا السُّنة عند الشافعي فقد ارتبطت بالكتاب من ثلاثة أوجه: التشابه الدلالي، علاقة التفسير والبيان، انفرادها بالتشريع باعتبارها وحيًا عنده، لكنها مِن نمط مغاير عن وحي القرآن، معتبِرًا أن لفظة "الحكمة" في القرآن تعني السنّة قولا واحدًا، ومن ثم اتخذت السنّة قوةَ الإلزام والتشريع متجاهلا آية " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفًا خبيرًا". لكنه يضطر إلى تأويل التلاوة بأنها تعني مجرد النطق ليستقيم معنى الحكمة بأنها السنّة التي يُنطَق بها كما يُنطَق القرآن!!
لكنه في قضية الناسخ والمنسوخ يَضطرب الشافعي أكثر إذ يذهب لعدم جواز أن تنسخ السنةُ القرآنَ ليفصل هنا بينهما ويتراجع ليجعل السنّة تابعة للقرآن إمّا بالتكرار أو بالشرح والتفسير بعد أن جعلهما نصًا واحدًا من قبل باعتبارهما وحيًا واحدًا لهما قوة الإلزام والتشريع ..! في الناسخ والمنسوخ يميز الشافعي بين القرآن والسنّة تمييزًا واضحًا دفَع الكثيرين لاعتباره يتوسط بين الأمريْن، لأنه يتردد بين التوحيد بينهما وبين الفصل ... وفي الحقيقة ليس توسطًا لأن الخلاف وقتَها لم يكن حول مشروعية السنّة، لكنه كان حول مصداقية بعض الأحاديث المنسوبة للنبي.
كما أنه ليس صحيحًا أن الشافعي حسم الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث باتخاذه موقفًا وسطًا، حول حجية أو مشروعية بعض الأحاديث، لكن الخلاف الحقيقي كان خلافًا أيدولوجيًا حول مجال فعالية النصوص الدينية التي كان يرى أهلُ الحديث أنها تشمل وتتضمن وتحكم كل مجالات النشاط الإنساني، بينما أهل الرأي كانوا يدافعون عن العقل ودوره في فهْم واستيعاب مجال تلك النصوص من خلال المصالح المرسَلة والاستحسان .. وفي عصر الشافعي بدت التساؤلات الكبرى حول الهوية والذاكرة كيف تكون مرجعيتها؟ هل تصاغ على أساس الحفظ والذاكرة أَم على أساس مرجعية العقل وقدرته على الاستنباط والاستدلال؟
أمّا الإجماع عند الشافعي فبدا ملتبسًا ومختلطًا مع مفهوم التواتر، ويكاد يتشابه موقفه من الإجماع مع موقفه من عروبة القرآن× إذ يرى أن إجماع العلماء لا بدّ وأن يكون موافقًا لسنّة النبي على أساس أن له نصًا ما حتى وإنْ بدا غائبًا منطوقُه عن الجميع، وبالتالي يجعل الإجماع سُنة واجبة الاتباع لها حجيتها ومشروعيتها .. يقول: "الإجماع ما اجتمع المسلِمون عليه، وحكوا عمن قبلهم الاجتماعَ عليه وإنْ لم يقولوا هذا بكتاب ولا بسنّة"! وينتهي به مفهومه هذا إلى الاندراج في مفهوم السنّة لتتسع هي الأخرى لكل الأعراف والعادات والتقاليد وليس فقط للمروي عن الرسول وحيًا وتشريعًا.
أمّا القياس: بدا القياس عند الشافعي منحصرًا في اكتشاف حُكم موجود بالفعل في النصوص الدينية حتى لو كان خافيًا أو مستترًا، أو بمعنى آخر اكتشاف الدلالات المضمَرة في الكتاب .. وكل اجتهادٍ أو قياس خارج عملية استنباط الدلالة من الكتاب هو استحسان وقول بالرأي.
ويبدو عنده أن القياس يمكن أن يَستند إلى أصول ثابتة، بينما الاستحسان لا يَستند عليها ... فالقياس عاصِمٌ للخلافات بينما الاستحسان مَجلبَة له وللتنازع.
ويمكن من خلال قراءة كتاب د. نصر استخلاص التالي:
- رؤية العالم والإنسان عند الشافعي رؤية مغلولة تربط العالم والإنسان دائما بثوابت ومسلمات لا ينبغي الخروج عنها، فهي رؤية محكومة بعلاقة العبد بالسيد، علاقة إذعان وعبودية وليست عبادية.
- دفاع الشافعي عن عروبة القرآن ونقاء اللغة العربية هو دفاع عن القرشية التي ينتمي هو إليها، وإذا كانت قريش أوسط العرب نسبا ودارًا فالحرف القرآني الذي تم اختياره من الحروف السبعة هو الحرف الوسطي الذي يعني الاعتدال والتوازن الذي هو سمة الإسلام نفسه.
- دفاع الشافعي عن السنة ومحاولاته الدائمة والمستمرة في صك مشروعيتها كمصدر من مصادر التشريع باعتبارها وحيا ثانيا بعد القرآن هو في حقيقته دفاع عن اللغة العربية التي لا يحيط بها إلا نبي.
- الوسطية المتصفة بها الثقافة الإسلامية والمنسوب تأسيسها كمصطلح أو كتيار إلى الشافعي، لم تكن خصيصة حقيقية نابعة من الإسلام، بقدر ما كانت إفرازًا أيديولوجيا للصراع الفكري والثقافي الدائر عبر مستويات كثيرة  إنْ في عصر الشافعي وإنْ قبلَه بقليل، بين فِرقٍ واتجاهات وتيارات تنوعت ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، وبين العرب والفُرس، وبين الصحابة والتابعين فيما بينهم فيما بعد، حول الفضاء الذي يجب أن تدور فيه فعاليات النصوص الدينية، وعلاقة الإنسان بها من ناحية ... وحول طبيعة الذاكرة والهوية التي يجب اتخاذها كأساس مرجعي هل تكون (الذاكرة) بقوة الحفظ والاستدعاء أم تكون (العقل) بقدرته على الاستنباط والاستدلال.

ثانيًا كتاب (ما وراء تأسيس الأصول "مساهمة في نزع أقنعة التقديس"):
انطلق د. علي مبروك من فكرة حضور (الأصل) في الثقافة والفكر والتاريخ، باعتباره مركزًا لكل فعالية إنسانية، فهو – أي الأصل – إمّا يكون حضوره كنقطة بدء للوعي ينطلق منها العقل مستوعبًا ومتجاوزًا لها إلى ما بَعدها، وإمّا يكون واقعةً نهائية تدور حولها الفعالية الإنسانية تكرارًا وإعادةَ إنتاج وتقليدًا واتباعية .. مؤكدًا أن حضور (الأصل) كمعنى ومفهوم احتل موقع المفهوم الأكثر مركزية وتأسيسية في الثقافة العربية والإسلامية، وانشغل في كتابه بفحص كيفية حضور هذا المفهوم ونوع وطبيعة اشتغاله، خاصةً وأن علومًا كثيرة قد نشأت وتبلورت حوله – حول الأصل – كأصول الدين وأصول الفقه وهي العلوم التي لعبت دورًا بالغ الأهمية في تكوين وبناء العقل العربي الإسلامي.
ومن ثَم التفت الباحث إلى الشافعي باعتباره مؤسس علم أصول الفقه، التي ما كان له أن يبنيها أو يؤسسها إلا في حضور الأصل الأول والأعلى وهو هنا الكتاب أو النص. الأمرُ الذي يتشابه مع فكرة هيمنة وتسلط معطىً سابقٍ دائمًا في ثقافة العرب قبل وأثناء عصر الشافعي، وهو معطى الثقافة الأبوية التي لا يملك المرءُ إلا التمحورَ والدوران حولها والانصياع الكامل لسطوتها، رغم نعي القرآن نفسِه – وهو الأصل هنا – على تلك الثقافة .. الأمرُ الذي كشف به د. علي مبروك أن آلية التفكير بالأصل أو بالنص تجاوزت فكرة التفكير بالأصل أو بالنص من حيث هو قرآن فقط أو سُنة إلى كل تفكير بالأصل على الإطلاق.
ومن هنا كان الشافعي مضطرًا وهو يؤسس لعمله الضخم إلى التعالي عن الشروط الإنسانية الموضوعية – ما دام التأسيس يدور بآلية التفكير بالنص الذي هو الأصل – ليمنح عملَه القداسة ليس فقط في مادة العمل ومتنِه ولكن أيضًا في القواعد والآليات المعرفية وطرائق التفكير التي اكتست هي الأخرى بقداسة أخرى ...فجاء كتابه – كتاب د. مبروك - سعيًا منه في محاولة مخلصة لدفع العقل العربي والإسلامي للارتداد من المقدس المتعالي إلى الإنساني الموضوعي.
وكان تأسيس القداسة وتشابكات الدين والقبيلة محورا للفصل الأول من كتابه متتبِعًا تجلياتِها في الديني والقَبَلي والسياسي، وممارسات الصحابة .. فضلا عن حديث النقل والعقل والعلاقات التي رسخت للقداسة الدينية والسياسية والقَبَلية.
ويجيء الفصل الثاني (الشافعي وتأسيس الأصول من تقديس الأب إلى تقديس الأصل) مبتدِئًا بالإشارة إلى اقتراب الفقيه من السلطة – الشافعي ورغبته في إقصاء الخلاف والرأي ووضع كتاب يجمع عليه الناس -  في خطوة أولى للتضييق على العقل والرأي، وهو ما يفسِّر إدراجَ الشافعي الاختلافَ والرأي ضمن دائرة الاستحسان، بل يؤلف كتابًا كاملا في " إبطال الاستحسان " .. وإذا كان الكتاب القرآن هو الأصل الذي يرجع إليه، فإن آلية التفكير بالأصل تفرض على الشافعي أن يضع كتابًا يكون أصلا وأصولا لكل ما يأتي بعده في مجال الفقه.
ويلتقط د. علي مبروك ولَع العرب بعلم الأنساب رغم محاولات البعض تهميشه، إلا أن الشافعي التقطه  ليكرسّه باعتباره سلطةً أصلية، خاصةً وأن النسب في حالته هو متصل بأرومة النبي، الأمرُ الذي سيترتب عليه تثبيت مركزية القبيلة المنتمي إليها النبي والشافعي معًا، ومن ثم تثبيت منهج وفقه الشافعي بسبب نسبِه الطاهر الشريف .. فضلا عن جعله القبيلة والعشيرة مناطًا لخطاب إلهي واضحٍ ومحدد ..  أيكون هو جديرًا بهذا أم يكون الآخر الفارسي أبا حنيفة؟ ... ليتسرب اعتزاز الشافعي وفخره بنسبِه إلى أنساقه الفقهية، وليَدخل الشافعي نفسُه بنسبِه هذا إلى فضاء القداسة، قال أحدهم ليلة مات الشافعي " الليلة مات النبي صلى الله عليه وسلم" وقال الرازي " من تعرض لمنازعته – يعني الشافعي – فقد جعل نفسه هدفًا لعذاب الله تعالى" .
ولعل تلك القداسة نفسَها وتثبيت سلطة الأصل نصًا ونسبًا هما ما وجّهَا عملية تأسيس الشافعي للأصول وترتيبه لها على نحو جعله يتعالى بسنّة النبي إلى مقام النص.
ومركزية السنّة هنا هي إعادة إنتاج واضحة لمركزية القبيلة ومركزية الشافعي نفسِه، الأمرُ نفسه جرى عند الشافعي مع اللغة باعتبار اللسان القرشي أفضل الألسنة.
عند علي مبروك بنى الشافعي الاجتهاد مقابل النص، حيث اعتمد في مفهومه للنص على آليتَي التوسع والإلحاق، بينما اعتمد في الاجتهاد على آليتَي التضييق والإهدار مع إقصاء الرأي  والاستحسان بعيدًا ... خاصةً وأن الاجتهاد يُحدِثه المرء مِن نفسه، بينما أُمِر الإنسانُ باتباع غيره والغير هنا هُمَا الكتاب والسنة. بينما راح في القياس والاجتهاد قبلَه يلحقهما بالنص، والقياس إمّا كنص أو مجرد هامش تافه وضئيل على نص بالغ الاتساع والإحاطة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " (البقرة 143) دون أن يلتفت أحد إلى الآيات التي سبقتها أو تلتها تلك التي تتحدث عن القبلة والمشرق والمغرب والمسجد الحرام حتى لتبدو الوسطية في الآيات ذات مسحة جغرافية أكثر منها سمة من سمات الثقافة الإسلامية التي سادت وسيطرت حتى أصبحت واحدة من مسلمّات الفخر والمباهاة. 
" قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ " (القلم 28)
وقول العرب (خير الأمور الوسط)
(قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا)
" حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ " (البقرة 238) توسط آيتين تتحدثان عن الطلاق ووصية الذين يذرون أزواجا!!

للمزيد عن علي مبروك

شارك